03-29-2017, 09:57 PM
|
|
[ أعطانيْ شخص أحبه بشدة صندوقا مليئًا بالظلام ، لزمنيْ ذلك الكثير من الوقت لأدرك بأن ذات الصندوق كان عبارة عن هديَّة قبل كل شيءْ ] ماريْ أوليفر |
زبرجديَّة مظلمة ؛ حياة أسود ، أسود ! ديجُورٌ ، عتمَة ! اختناقٌ وحيرَة ! البطاقة الرابحة فيْ ورق اللعبْ ؛ و الملك فيْ الشطرنج ؛ علامة الغموضْ ومسمى يُطلقُ على الأبديَّة ؛ ليسَ علامة للحزنِ والمأساةِ ! لِمَ يُربطُ مثل ذلك الشيءِ بالبؤس والمشقَة ؟ ، معنى للفراغ والعمقْ ؛ سيدُ الآلاف ! ماذا يعنيْ أنْ ينتهيَّ كل شيءٍ قبل بدايته ؟ أنْ تشعر بالضياع لكونكَ لمْ تستطع اختيار الطريقة التيْ تريدُ أن تعيشَ بها ! ، لا أملَ ولا حيلة ، النهاية قدْ نُسجتْ ولا مفر من تشابكِ خيوطِ القدرِ الأزليَّة قرارات لمْ تكن سيدها و خياراتٌ كنتَ الأساس فيها لكنك لمْ تستطع حتى أنْ تقضيَّ الحكمَ بها ! ، زبرجديَّة مستقر و اندثارُ لكيانٍ تحت الرماد ! فتحَ عينيه ، نظر فَبحثْ ، لمْ يجد شيئًا ، عادَ للنومْ ! ، قد يكونُ هذا هو النشاطُ الوحيد الذيْ يفعله هذه الأيَّام بالإضافة إلى ملءِ معدته بالطعامِ والشرابْ – طبعًا - لا شيءَ آخر يفعله سوى الاستلقاءَ على السرير واللعبِ بدميته التيْ لم تفارقهُ منذ يومِ بلوغهِ الرابعة ، تنفسهُ يتباطأ يومًا بعد يومْ ، جسده الصغير المثقلٌ ، وَ أحلامُ ذهنه الملونة التيْ اختفتْ بلا رجعة ، فراغٌ هالكُ ممل استقرَ في جنباتِ صدره النابضْ لتتقطع دواخلهِ بخجلٍ نازحْ ، تحركَ من مكانهِ أخيرًا متوجهًا إلى ذلك الصندوقِ الذيْ لفت انتباهه منذ أنْ استيقظ قبلَ برهات بسيطَة ، امتدت ذراعه النحيلة ليبعد بأصابعه الغطاء مستطيل الشكل – برفق - وينظر إلى حروف اعتادتْ عينيهِ قراءتها .. [ هنيئًا على بلوغكَ الثامنة ، لقد كنت طفلا جيدًا حتى اللحظَة ] دميَّة ! ، لماذا توقَّع شيئًا أكثر أهميَّة ! ، التقطها ، تلمَّسها ، فأعادها ، ليغلقَ الصندوقَ بعدها ، أنزلَ كفيه ، فكر قليلا ، استدار إلى الخلفِ صامتًا ، ليتقدم بخطواتٍ ثابتة إلى الأمام ، لقد مرَّ الكثير من الوقت ! ، تلك الست الساعاتٍ السابقة التيْ قضاها غارقًا في الظلام سلبتْ منه حريته ، خياله وَ صديقه العزيزْ ! ، راحتْ مقلتيه تنظرانْ إلى أسفل قدميه ، تبحثُ عن بقعة مظلمة ، امتدت على شكل جسده حتى لامست الجدار أمامه ، الظلْ أو بقعة الظلام الغريبة كما أطلق عليها عندما اكتشفها لأول مرة ! ، أمال رأسه نحوَ اليمين فيمَ رفع كفهَ عاليا ملوحًا ، طيفُ بسمة عابر ظهر على وجهه المليح فور رؤيته لفعل هذا الصديق المطابق لصنيعه ، ابتلع ريقًا ، سلبَ نفسا ، تبسَّمْ فعلاً ! ، تحدث في حين لا تزالُ كفه الصغيرة معلقَّة في الهواء : لقد عدتَ أخيرًا ! ، لمْ تكن موجودًا قبلَ لحظاتْ ، لقد شعرتُ بالملل ! .. توقف عن الحديث ، أدار عنقه يرقبُ فتحة البابْ التيْ توسعتْ فجأة ، لم يتحرك ! ، من هناك ؟ ، تحولٌ غريبْ طرأ على ملامح وجهه تلك التيْ تلونتْ اختناقا وتضجرًا ، لمْ يخبْ ظنَّه عندما امتدتْ تلك الأصابع من الظلام عميقًا لتدفع الباب بهدوءْ ويدخلَ من خلفِه جسد لفتاة اعتاد على رؤيتها مؤخرا ، لم تكن قامتها سليمة ولأن ساقيها كانت ترتجف شعر بأنها قد تقع في أية لحظه ، لم تفلح خصل شعرها المتمردة عن إخفاء ملامح الارتياب التي اعتلت وجهها ، استدار ينظر إلى محاولتها في نطق عبارة سليمة توضح المقصد من مجيئها ، بالنسبة إليْها ، ظلت حروف كلماتها متبعثرة في الهواء فور أن ارتسمتْ نقطةْ مرتابة فيْ ذهنها المشوَّشْ ، لم تجد ردًا وفكرت بأنه لن يعترضَ على جملة [ إنه الوقت لتناول طعام الفطور ، سأساعدكَ فيْ تجهيزِ نفسِكْ ] ! ، تحركت من مكانها بعفوية نحو الخزانة المركونة قريبا من الجدار المقابل لمكان وقوفه ، التقطت أول ثياب رأتها ولمْ تكنْ مسألة الألوان تشغلُ بالها فيْ هذه اللحظة ! .. انهمكتْ أصابعها النحيلة تغلقُ أزارا قميصه القصيرِ فيمَ تحاولُ عدمَ النظر إلى وجهه الذيْ لم يظهر ملامحا راضيَّة أبدًا ، فكرت ، ليفعل ما يشاءْ ، ولكنْ عندما تكونُ بعيدة عنه وبعد أنْ تقدم طلبَ استقالتها من هذه الوظيفة العسيرة ، قشعريرة غريبة استولتْ على جسدها المرهقْ قبلَ أنْ يخترقَ صوته الصَّافيْ أسوار السكونِ للحظة ، تساءلَ بلطف : لماذا لا أملكُ أمًا ؟ تبعثرت الكلماتْ في ذهنها لوهلة وشعرتْ بأنها نسيتْ كلَّ حرف من حروِف لغتها الأم ، من بين كل الأيام ! ، لماذا لمْ يختر وقتًا آخر ، أو على الأقلِ سؤال شخصٍ غيرهَا ، ذلكَ ما يُثبتُ سوءَ حظها حقًا ! ، أفلتت أصابعها قطعة القماشِ المخمليْ لتنهضَ منْ مكانها وتقفَ قبالته متوترَّة ، إعياءُ غريبْ استولى عليها ، ترجمته عندما ضغطتْ على أطرافها بقسوَّة ، لم تقدر على استردادِ ثقتها ، ليسَ وهيَّ فيْ هذه الحالة – الغريبة - ، ابتلعتْ ريقها قبلَ أنْ تجيبَ مضطربَة : لأنكَ تمتلكُ أشخاصًا كُثُرًا ، إنك تمتلكُ والدًا حتى ! لمْ تبدو قانعة بإجابتها ولمْ ترغبْ بالنظر إلى ملامحِ وجهه حينها ، ليستْ المسؤولة عنْ عدمِ حنكتها ، لم تعرف بم تجيبه ولا يحق له أن يسألها سؤالا ممتنعًا كهذا ، هو يعلمُ بأنه لا يستطيعُ النظر أو التحدثَ إلى والدته منذ مدة طويلة فلماذا يسأل الآن ؟ ، في هذا اليومِ بالذاتْ ! بسبب هذه السنة التي أضيفتْ إلى عمرِهِ مؤخرًا ؟ ، ضعُفَ كتفيها وتسللَ وهنٌ غريبٌ إلى أوصالها المشدودة لترفعُ عنقها متعمدَّة النظرَ إلى صاحب عينيْ العسلْ ، وَ شعرٌ بدلكةٍ ليلةِ مظلمةْ ، نظراتُه المرتابَة لها أثرَّتْ سلبيًا على موقفها فجأة ، راحتْ تنظر إليه بعينينِ متوسعتينْ ، تحاولُ استنباطَ ما يدورُ داخلِ رأسه ذاكْ ، لمْ تستطع ! ، ليسَ الأمر بيدها ! ، هذا الطفلْ مختلفْ ، تصرفاتهْ لا أحدَ يقدرُ على التنبؤُ بها ولا بخيالهُ المسوَّرِ بحيرةٍ لا متناهيَّة ، شعرتْ بجفافٍ غريبْ استكنَ حلقها المرتجفْ ، من غير المعقولِ أن يستطيعَ هذا الصغير التأثيرَ عليها إلى هذه الدرجَة ! ، حتى أنها غير قادرةُ على فهمٍ لماذا لا تستطيعُ النظر إلى شيءٍ آخر عداهْ ! ، تلكَ العينينِ ، لمْ يسبقْ لها رؤيةَ ما يشبهها ! ، حاولتْ نفيَّ كل تلك الأفكار الغريبَة عن بالها ، وعادتْ تعتقدُ بأنَّ هذا الطفلْ مختلفٌ فقط ، مختلفٌ لأنه لمْ يستطع أنْ يعيشَ سنواتِ حياته هذه كما ينبغيْ ! ، ليس مريضًا أو مختلا إنه فقط .. مختلفْ ! .. قلبها الذيْ راحَ يسردُ قصةَ خوفِهِ ، وعقلها الذيْ سُلبِ من الوعيْ لدقيقَة ، ثانيَّةٌ من الارتباك و ارتعادٌ منْ المجهول صافحَ عتباتِ احترازها المهزوزَةْ ، تمكنتْ من السيطرة على إدراكها لوهلة ، جذبتْ هواءً ، واستطاعتْ الشعورَ بأنفاسها تتهجد خشيَّة في صدرها المضطرب ، عقدتْ حاجبيها ، عملتْ جاهدة لتلتقط كلماتِهِ المتفاوتة ، صوَّرتْ لها عينيها حركةُ ظلِّه التيْ امتدتْ فجأةْ نحوَ ثوبها لتمسكَ بطرفِه ، شعرتْ به يضغطُ بأصابعه عليهْ ، لتعاودَ النظر إليه ثانيَّة ، مالذيْ يحاولُ فعله هذا المريبْ ؟ ، ابتسمْ ، حملقَ بها ، وأمالَ رأسهُ نحوَ اليمين ، عادته التيْ لم تفارقه ! ، هتفَ أخيرًا : هل تعلمينْ ، حتى الأمواتْ ينامونَ في الليلْ ! .. صمتَ فأكملْ : إنهمْ يتجولونَ فيْ الصباحِ مثلنا ويعودونَ للنومِ في الليلِ ! ، أخبرنيْ بذلكَ صديقيْ ! .. فلسفةُ إدراكِها التيْ شُّلتْ فجأة ، و أوصالها التيْ رفضتْ أنْ تعودَ لسيطرتها ، كيانها الذيْ ارتعشَ بغتَة ، وقلبها الذيْ نبضَ بشكلٍ جنونيْ ، لا تقدر ! ، ليستْ لها القدرة على التحملْ أكثر ، الأيامُ التيْ قضتها بينَ هذه الجدرانْ تشفعُ لها للتخليْ عن هذا العقابِ النفسيْ ! ، لمْ تفعلْ شيئا لتعاقبَ عليه حتى ! .. ارتدَّتْ للخلفِ رافضةً الخضوعَ إليه أكثر ! ، صديق ! ، شخصُ لا يخرجُ من غرفتِه وفرصة لقائهِ بالأشخاصِ فيْ مثلِ عمرهِ مستحيلة ، من أينَ استطاعَ الحصولَ على صديقْ ! ، أزاحتْ مقلتيها نحو تلك البقعة المستقرة على الأرضْ ، المتصلة بقدميه الصغيرتين ، وتقفُ قبالتها كما يفعلُ تماما ! ، ليستْ مجنونة ، ليستْ كذلكْ لتصدِّقَ بأنه يحادثُ .. ! ، ابتلعتْ ريقها لوهلة قبلَ أنْ تشعر بدوارٍ غريبْ يداهمُ رأسها ، لقد وصلتْ إلى أقصىَ ما تستطيع ، والعذرُ الذيْ ستخرجُ به من هذا المنزلْ ، زيارة المصَّحِ النفسيْ ، ربمَا ! .. سيديْ العزيزْ .. هل تعلمْ ! ، يُقالُ بأنَّ فصلَ الخريفْ عبارةٌ عنْ ربيعٌ آخر ذلكَ الوقتْ الذيْ تتحولُ فيه الأوراقُ إلى زهورْ ! ، إنه الوقتُ المناسبُ للرحيلْ و للوقوعِ فيْ الحبْ ! ، وَ هوَّ الوقتُ الأنسبْ للإقلاعِ عن الخطايَا ، آخرُ الفصولْ ! .. هلْ تعلمْ ! العيشُ وحيدًا يخلَّفُ ألمَا قلبيًا قاسيًا ، وعقلكَ الذيْ يخبركَ بأنَّ أيام الفرحِ قادمة وبأنَّ كلَّ ما تتحمَّله الآن ستنالُ مرادكَ عليه لاحقًا ، سيخاطبكَ بلطفٍ غامر لقد قاسيتَ الآن ولكنكَ ستبصر الأمل فيمَ بعد لا تيأسْ ، انظر للأمامْ فقط ، سيديْ العزيزْ ، لا بأسَ إذا خسرتَ تيقنك بشأنِ تلك الكلماتْ ! ، لأن ذلكَ لن يحصُل ، عينُك الدامعَة وقلبُك النابضْ ، أوصالكً الذابلَة وهذيانكَ المحرومْ ! ، سيديْ العزيز ، لابأسَ إذا انقطعت أنفاسُك فجأة أو وجدتَ نفسَكَ غير قادرٍ على المضيْ رغمَ توفر السبلِ أمامك ، عليكَ أنْ تعلمْ بأنك فعلتَ كل ما تستطيع ! ، لقد بذلتَ جهدكْ ! ، كن على دراية فقط بأنَّ التحسر والندم لنْ يفيد ، قاتلْ لكنْ لا تأملْ ! .. زفرتُ نفسًا عميقًا قبلَ أنْ أضغطَ على شفتيَّ بقوَّة ، سماعُ أنفاسِه المزعجَة ، و تذمرهِ البائسْ ! ، لا أظنُ بأنيْ قادرٌ على تحملِ هذا كلِّ يومْ ، وضعتُ كأسَ الماءِ جانبًا بعد أنْ دفعتِ به القرصَ بفميْ ، لمْ أجد فرصة للنظر إليه ، لمْ أرغبْ بذلكْ ! ، لكنِّيْ استطعتُ رؤية ذقنه الحادةْ والتيْ ارتجفتْ بتذمرٍ مكتومْ ، ضغطتُ بكفيَّ على الغطاءْ يائسًا ، ساعاتُ يوميَّ المقبلة ! ، لنْ تكونَ كما آملْ ! ، رعشةٌ غريبَة استولتْ على كاملِ جسديْ ذلكَ عندما رأيتُه يضعُ بين ذراعيَّ كيسًا ورقيًا مملوءً بثمار التفاحِ الناضجَة ، أفرجَ عنْ أنفاسه الثائِرة ذلكَ عندما صاحَ متذمرًا : لنْ أكونَ المسؤول عنْ تناولك لأدويتكِ بعد الآن ! ، ولنْ أتحمَّلَ رؤيَّتكَ تتقاعسُ منْ أجلِ كوابيسَ لا تتحقْقْ ، الجلوسُ هكذا لنْ يفيدْ ولنْ يعيدَ إليكَ أيَّ شيءٍ فقدته ! .. صوتُ إغلاقِ البابْ كانَ آخر ما سمعتُه ! ، رجلٌ مرهقْ ! ، سيديْ العزيزْ ، هلْ تعلمْ ، لقد بلغ هذا الرجلْ سنُّه الأربعينَ قبلَ أيامْ ، لقدْ أصبحَ أكثر إزعاجًا مع أنه لمْ يصبح عجوزًا بالكاملْ ! كيفَ سأستطيعُ تحمَّله لو صار كذلك ؟ ، يُسمعنيْ تلك العبارة المعاتبَة كل صباحْ ، يهددنيْ بكلماتٍ مبطنَّة ويطمئننيْ بنظراتٍ مؤنبَّة ! ، لنْ يكونَ المسؤول عن تناوليْ لأدويتيْ لكنه أول من يسرعٍ لجلبِ المزيدَ فور نفادها ، أول منْ يتفحصً عينايَّ الدامعتينْ و أولُ منْ يكافئنيْ بثيابٍ جديدة ! ، فكرتْ ! ، ربما لأنه يحملُ ذات الدماءِ التيْ تجريْ في جسديْ ! ، ليس سببا مقنعا ، ربما لأنه يشعر بالشفقة لا أكثر ، نهضت متخاذلا وخطوت أولى خطواتي مبتعدا عن ذلك المكان الذي تحمل ثقلي لأكثر من ساعات ! ، أغلقت الباب خلفي وقصدت الباب الخامسْ فيْ نهاية الرواقْ ، لولا أننيْ عدلتُ عن رأيي .. أدرتُ عنقيْ يمينا وتوجهتُ رأسيًا نحوَ تلكَ الغرفة المضيئَة ، الغرفةُ التيْ تحملُ ريحَهُ دائمًا ، تلك الجدرانِ التيْ تعكسُ طيفَه فيْ وقتِ متأخرٍ من الليلْ ، لمْ يكنْ موجودًا ! ، رغمَ أنه لمْ يبدوْ فيْ طريقه للخروجِ ، تجاهلتْ الأرائكَ المصطفة بانتظامْ أماميْ ونظرتُ إلى ذلكَ الشيءْ المرتكزِ على طاولة خشبيَّة فيْ أقصى الغرفَة ، إنه يصدرُ أصواتا متقطعَة ، مستنجدَة ناهيكَ من أنها غبيَّة ! ، لا أعلم لماذا لا يزال يحتفظ بهذه القطعة القديمة ، أعلم بأنه يجني الكثير من النقود ، فلو لم يكن كذلك لما قام بشراءِ المزيدَ من الحيواناتِ وجلبها إلى هنا ! استبدال مذياعٌ قديمٍ بآخر لنْ يأخذ منه الكثيرَ ، تركتُ مكانيْ متوجهًا إليْه ، يبدو بأنه كانَ فيْ نيتِّه إصلاحه لرؤيتيْ لتلك البراغلِ المتناثرة قريبًا منه ، إنَّه غريبٌ فعلا ! ، ذلك الرجلْ ! .. طرفتُ بعينيَّ مستغربًا ذلك عندما انقطعَ الصوتْ فجأة ، صمتٌ عجيبٌ دام لأكثر منْ ستِ ثوانيْ ! ، بعدها عادَ صوتُ ذلك الرجلُ الإيرلنديْ من جديد ، لكنه مالبثَ أن انقطعَ ثانيَّة ، مالأمر معه ! ، إنه قديمٌ فعلا ، رفعتُ اصبعيْ قاصدًا آخرِ زرٍ من جهة اليمينْ ، متسِّخْ ، يحويْ على الكثير من الترابْ وبشكلٍ دائريْ ! ، لن أصابَ بالمرضِ إن قمتُ بالضغطِ عليهْ لكننيْ سأحملُ جراثيم فاسدة على أطرافِ أصابعيْ ! .. سيديْ العزيزْ ، هل تؤمنُ بالمعجزاتْ ؟ ، بالأمور الخارجة عن المألوفْ ؟ ، قصص الأجداد والتراثْ ؟ ، قوى سحريَّة و بساحراتُ مشعوذاتْ ؟ ، لمْ أكنْ أفعلْ ! ، لمْ أكنْ أعلمْ بأنَّ حركة واحدة ستكلفنيْ انقلابًا أعدُّه لمْ يكنْ في صالحيْ ! ، ذلكَ لأنه فيْ الوقتِ الذيْ أبعدتُ فيه أصابعيْ حتى شعرتُ بدوارٍ غريبْ يلتهمُ رأسيْ وبأنفاسٍ متسارعة تتلاعبُ بنبضاتٍ قلبيْ المتفاوتة ، ظلامٌ استفحلَ رؤيتيْ وإدراكيَّ الذيْ اختلَّ فجأة ، شعوريْ بجسديْ الذيْ بدأ .. يهويْ فجأة ! .. أعلنت الدقائق عدم انصياعها لأمر الرتابة الأزليْ بثوانٍ متسارعة ونبضاتٍ خافقة لمْ تتوانى عنْ تبذيرٍ لحظاتٍ كاذبَة ! عقلهُ يختنقْ بأفكارٍ مزعجَة وَصدرهْ يضطربْ بأنفاسٍ ثائرَة عندئذِ سأل نفسه باكتراثْ لماذا وُلِد ؟ ، فيْ اليومَ الذيْ نبضَ فيه قلبه لأول مرة هوَ ذاتُهُ اليومُ الذيْ أَصبحَ فيه جزءًا من هذا العالمْ ! حياةٌ معاكسَة ورغباتٌ لمُ يكتب لها أنْ تحققْ ! .. عقابْ ! ، كلمة من أربع أحرف ، بارعةٌ فيْ بثِّ الرعبِ فيْ النفوسِ وسلبِ راحةٍ لمْ يسبقْ لجسد تذوق طعمها منذ مدة طويلَة ، أنفاسُه اللاهثَة ، المرهقَة ، المثقلة ، تحكيْ عن حالتهِ البائسَة ، جسدُه الملوثْ فيْ الهواءْ بقدمين ترتجفْ تستعطفُ جاذبيَّة تستندُ عليهَا ، شعرَ بالقيودِ الحديديَّة تُضيقُ الخناقَ على معصميه لدرجَة أنه لمْ يعدْ يشعر بهما ! فكر بأنه لنْ يكونَ قادرًا على الاستمرار أكثر إن فقدَهما ، جاهدَ كثيرًا ، حاولَ بيأسْ إلا أنه لمْ يستطع كبتَ صرخَة ظهرتْ من أعماقِ دواخله المثقلة ، شعر بالضعِفِ يستوليْ على جسده وبذهنه المتعبْ ينقلُ إليه صورًا مشوشه لما يحصل حولَه ، استملكتْ جروحِ مُمَزِقَة كتفيه العاريتينْ بينما تنزلقُ قطراتُ عرقه من أعلى جبينِه المثقلة ، قبضَ على كفيه بقوَّة ذلك عندما شعرَ بالسوطِ يضربُ جسده متواترُا ! .. يستشعرُ ندوبًا ظهرتْ سلفًا بروحِه المتوجعَة ، ضغطَ على شفتيه فيمَ يحاولُ جاهدًا جذبْ أنفاس متقطعة إلى رئتيهِ المتعبتين ، تراجعَ ذلك الرجلْ إلى الخلفْ وقد ظهر التعبُ باديًا على ملامح وجهه هوَ الآخر ، ضغطت أصابعه على السوط بقوة وهو ينظر إلى الشاب الذي بدى وكأن روحه قد غادرت جسده ، راحَ صدرهُ يرتفع ويهبطْ في عمليه فاشلة لتنفسٍ سليمْ ، سعُل بقوَّة قبلَ أنْ يتحدثَ شاتمًا : لمْ يكنْ ليؤول بكَ الحالْ هكذا لو لمْ تفعلْ صنيعًا غبيًا كذاكْ ! لقد تحرك ! ، تحركَ أخيرًا ، خيبته المحبطة لمْ تمنعْ صدره بأن ينبضَ بالأملِ لأوَّلِ مرة ، مجنونْ ! ، قولٌ طريفْ شعرَ به يدورُ فيْ ذهنه لينقلَ بسمة غريبة ظهرتْ على شفتينِ متصدعتينْ ! ، ليسَ الأمر وكأنه قد أصيب باختلال ولكنْ من حقِه أنْ يفرحْ لأنه استطاع الشعور وتحريكَ أصابعه بارتياعٍ ظاهر ، لمْ يبدو وكأن هذا الرجلْ قدْ استلطفَ هذه الملامحَ الفرحة ، هل يسخرُ منه يا ترى ؟ ، ظهرتْ صرخاتٌ متفاوتة آسرة تتوسَلُ حريَّة هاربَة ، لا يظنُ بأنه يستطيعُ التحملْ أكثر ! ، ليسَ بهذا الجسدِ الضعيفْ ! ، تهجدتْ أنفاسه وراح عقله يخبرهُ بأنه لا مفرَ من ظلامٍ قد يُلون عالمه بعد لحظاتٍ بسيطة ، أغمضَ عينيه بمشقَّة ظاهرة فيمَ لمْ يستطعْ كبح مشاعره المتضاربة باستهجانٍ ، لِمَ عليه أن يعاقبَ لمثل ذلك السبب الغبيْ ؟ بلْ لماذا لمْ يصدقْ أحدٌ بأنه ضحيَّة قبل كلَّ شيءْ ؟ ، قومٌ أغبياءٌ فعلا ! .. صريرُ غريبْ انتقلَ إلى مسامعه المثقلة ، دُفع الباب الحديدي إلى الداخلْ بهدوءْ تلاه صوتُ خطواتٌ متلاحقَة ربما لأكثر من شخصينْ أو هذا ما اعتقده على الأقلْ ، صمتٌ مكروبْ استفحلَ غرفةً ساكنَة إلا من أنفاسٍ تنتظر لحظة خرسها المقلقَة ، تحركَ حاجبيه طوعًا ليفتحَ عينيه المرهقَة محاولا استدراك ما يحصلُ حوله ، عقِلَ ألمًا بعنقه المتصلبة ذلك عندما رفعَ رأسه ينظر إلى رجلٍ غريبْ لمْ يسبق له رؤيته ، تظهر السنون الكثيرة على وجهه النابضْ ، تصطبغُ ذقنه الصغيرة بلحية بيضاءْ كثيفة كما تعلو صلعته شعرًا أبيضًا كثيرًا ، نظرَ إليهِ بعينين حادتينْ ، لمْ يستطع تخمينَ ما يدورُ في رأسِ هذا العجوزْ الغريبْ أمامه ، ولا فهم ما يحدثْ حقُا ، فكر – مجددًا - بأن ذهنه راح يصور له أشياءً مغلوطَة ، نقلَ بصره إلى ذلك الرجل العجوز الذيْ هتفَ بنبرة آمرة : لا نريدهُ أن يمُوت ، لقد طلبنا منكَ معاقبته فقط ! .. ظهر الأسفُ جليًا على ملامح الآخر ، ذلك الذي لمْ يتجرأ على النظر إلى محدَّثِه ، حريَّة غريبة شعرَ بها تستفحلُ صدره قبلَ جسده ، قبضَ على كلا معصميه بأًصابعه ليضغطَ عليهما بقوة ، ضعفٌ استولى على كفيه المتعبتينِ لدرجة أنه اعتقد بأنه لن يقدر على تحريكهما كما يريد ، ظهرتْ نظراته المرتابة خلفَ خصلاتِ شعره المتمردة – المتعرِّقة - ، ينتظر حُكمًا وشيكًا بعد أن استعادَ حريته المسلوبَة ! ، هل سيسمحُ له بالذهابِ في حال سبيلِه ؟ ، لقد تعجَّلَ فيْ طلبِ بعض الأملْ فملامح هذا الشخصْ لا تبشر بالخيرِ على الإطلاقْ ، بقيَّ يحيطُ معصمه بأصابعه ، يستمدُ القوة من العدمْ ، لا شيءَ يجبره على الوقوفِ هكذا فلا يبدو وبأن الخلاصَ ينتظِرُه على أيَّ حالْ ، جذبَ نفسًا في الوقتِ الذي أبعد فيه ذلك العجوز بصرهُ عنه ليستدير قائلًا : اتبعنيْ ! .. كلمةٌ واحدة ! يسمعها فيْ أغلبِ الأحيانْ لكنها بدتْ مجهولة المعنى عندما نطقها ذلك الرجلْ ، وفي هذه اللحظة بالذاتْ ! ، يتبعه إلى أين ؟ ، إلى حتفِه ؟ ، ربما ما فكر فيه صحيحٌ فعلا ، فلا يظنُ بأن هؤلاءِ الأشخاصُ يسهل التفاوضُ معهم أصلا ، ألصقوا به تهمةً ظُلمًا ويطلبونَ منه أخذَ حقِ عقابٍ لا يستحقُه ! ، من السهلِ أن يغيبً العدلُ في بعضِ الأحيانْ ! ، استدارَ للخلفْ ليلتقطُ قميصه المرميَّ على الأرضْ وَيرتديه على عجلْ ، تجاهلَ حرارة لاسعة آذتْ بشرته القمحية فور أنْ لامس القماشَ جروحه الممزَقَّة ، قشعريرة غريبة سرتْ فيْ جسده بالكاملْ ، توجَّع ، اغتَّمْ و اعتلى تأوهٌ شديدْ أديمَ قلبه المعذَّبْ ! .. . . [ بيتر ، لا بأسَ بأنْ تخسرَ كبرياءكَ من أجلِ أشخاصٍ يعنونَ لكَ الكثيرْ ، لا تفكر بالتخليْ عنهمْ ، لا تحاولْ تجاهلَ صرخاتهمْ ، لقد عشتَ معهمْ لأنهم تريدُ ذلكْ ، لأنك أحببتهمْ ولنْ تستطيعَ أنْ تكمِلَ حياتكَ من دونِ أنْ يكونَ أولئك فيها ، هل تستطيعَ أن تعدنيْ ؟ ] .. . . جدرانٌ من أحجارٍ صُلبَة ، ممراتٌ طويلة مظلمة ، ساكنة ومخيفة ، رغمَ تواجدِ مشاعلِ النار المعلقَة عليها إلا أنَّ ذلك يزيدُ المكان رهبةً و رعبًا . الأولى وتليها الثانيَّة ، الثالثة تليْها الرابعَة ، صوتْ خطواتِ قدميهِ باتتْ تشكلِ معزوفة إغريقية تماثلتْ تماما مع نبضاتِ قلبه الفزعة ، يشعر بصدره يضطربْ بتلكؤ مندهشْ ، يشعر بالخوفْ ! ، بالرغمِ من أنه لا يحيدُ ببصرهُ عنْ ظهر العجوزِ أمامَه ، يطرفُ بأصابعه مرار فيشعر وكأنَّ عقله على وشكِ الانهيار ، قدرته على التحمل تلاشتْ تماما وقد تغادر القوة قدميه فيْ أيَّة لحظة ، لا يستطيعُ تخيل بأنه وبعد فترة قصيرةْ قد تعانقُ رقبته مقصلة أو سيفًا ! ، مالذيْ يريده هؤلاءِ الشياطينَ منه ؟ ، ألا يكفيْ بأنهم أوجعوا جسده ظُلمًا ! ، لقد ظنَّ بأن نهايته ستكونُ على طرفِ ذلك السوطْ لولا تدخلِ هذا العجوز فيْ الوقتِ المناسبْ ، فكر بأنه لو تلقى ضربتين أخريينْ لما استطاع أنْ يفتحَ عينيه ثانيَّة ! .. تباطأتْ خطواتُه قليلا ليتوقفَ فيْ مكانه أخيرًا ، رفعَ بصره يرمُقُ بوابة فسيحة الكبر ، تأخذ حيزًا لا بأس به من الجدار الصخريْ أمامه ، شعرَ بضوءِ المشاعل على جانبيها يلتمعُ في عينيه لوهلة ، جاعلًا ذكرىً غريبة قديمة تسيطر على ذهنه فجأة ، لقد شعر وبأنه وقف فيْ مكانٍ يشبه هذا المكانْ ، هذا الشعور وهذا الظلامْ ، تماما كما حصل قبلَ خمسة عشرة سنة بقدمين مرتعشتينِ وقلبٍ ينزفْ ، الفرقُ الوحيد بأنه لمْ يعد يحتضنُ دميَّته بين ذراعيه ! ، اضطرابٌ مزعجْ راح يُقلقُ رأسه قبلَ صدره ، لا شيءَ قادرٌ على محوِ تلك الذكرياتِ المظلمة ، لمْ يكنْ يعتقد بأنه سيعيشُ أحداثًا قد تذكره بماضٍ لا يُنسَى ، ضغطَ على شفتيه فيمَ أحسَ بأن أنفاسه تتناقصْ ، ضيقٌ غريبْ ألَّمَّ بنفسه المحتارة قبل أنْ ينكمشَ جسدهُ بضعفْ ! ، شددَّ على أطرافِه بقوَّة وأجبر نفسه على أخذِ شهيقِ قويْ ، لنْ يكذبَ على دواخله ويقُولَ بأن كل شيءٍ بخير ، لأنه يعلمْ بأن ذلِكَ " الخير " الذيْ يبحثُ عنه منذ مدة لن يطرقَ بابه في هذه اللحظة بالذاتْ ! .. رفع عنقُه عاليًا حالمَا شعرَ بالهواءِ يضربُ وجهه بلطفْ ، أدار رأسه يمنة ويُسرة ، غريبْ إلى أينَ ذهبَ ذلك العجوزْ ؟ اختفى بلمحةِ بصر ، كلُ ما فعله بأنه غاصَ فيْ ذكرياته قليلا ، لمْ يسمعْ صوتًا لخطواته وهي تبتعد من هنا ، جفِلَ للحظَة ذلكَ عندما تناهتْ كلمة واحدة إلى مسامعهِ المرهقة " ادخُلْ " ، رسالة رمزيَّة تحملُ في طياتها معنى لا تقف هكذا ، من الذيْ يُحدثه ! ، لا أثر لأحد هنا ولا لشخصٍ يقفُ بجانبه ، استدار للخلفْ يرمقُ ذات البوابة التيْ يقفُ أمامهَا ، شيءٌ غريبْ ، هل هذا معقولْ ! ، شعر بفلسفَةِ إدراكِه تهبطُ لوهلة فور أنْ أدركَ بأن الصوتَ قادمٌ من خلفِها ، من خلفِ هذه الأبواب المغلقة ! ، ابتلع ريقه بينما ينظُر إلى المقبضِ المعدنيْ المنقوفْ ، رفعَ أصابعه ليدفع بثقل جسده – الهزيلْ – لوحَ الخشبِ أمامه ، لمْ يُتعبْ نفسه بالتفكير فيْ أول شيءٍ قد يراه عندما يدخل ، لأنه يعلمْ بأنه سيكونُ شيئًا لن يسُّره البتَّة ، فأسًا أمْ سيفًا ، منجلًا أمْ مقصَلة ! ، قدْ تختلفُ السُّبلْ لكنْها تشتركُ من أجلِ ذاتِ الغايَّة ! .. . . [ كبرياءْ ! ، الكبرياءُ غايَّة وأعدَّهُ شيئًا لا أستطيعُ خسرانه على الإطلاقْ ، تقول بأننيْ يجبُ أن أضحيْ به من أجلِ أشخاصٍ أحبهمْ ، لا أظنُ بأنيْ قادر على تحقيق مطلبكْ ولنْ أقطَعَ وعدًا لا أستطيعُ أنْ أفيَّ به ، على كلٍ لا أعتقدُ بأنِّيْ أملك أشخاصا أعدهمْ أكثر أهميَّة من حياتيْ ، هو من جعلني أعيش بهذه الطريقة وهو من تسبب في جعل أنفاسي تتباطأ ، لقد قضيتُ سنواتيْ السابقة وحيدًا ولن أكونَ في حاجته أو لأحدٍ أبدًا ! ] . . انبلاجُ الضوءِ الأبيَضْ هو ما جعل الضعفَ يسريْ في أطرافيْ المكبَّلة بالصمت ، رويدًا حتى أحسستُ به يصلُ إلى قلبيْ المضطربْ ، توترٌ واهتياجْ ، لمْ أعد أستطيعُ التحكمَ بجسديْ ورحتُ أفكر مجددًا بأنَّ هناكَ خطأً فيْ عينَيْ لقد صوَّرت ليْ أشياءً مغلوطَة وللمَرَّة الثالثة ! جذبتُ نفسًا عميقًا قبلَ أن أطرفَ بجفنيَّ لوهلَة ، شعرتُ بالرؤيَّة تتوضحْ وببصريْ يعودُ إلى سابقِ عهدهِ – حقًا - ، ارتددتُ على عقبيْ بغتَة فور أن أدركتُ هذه الغرفة العجيبَة لتوِّيْ ، تضاربتْ أفكاريْ و بقيتْ دواخليْ تغوصُ فيْ دوامة لا يبدو وبأن هناك نهايَّة واضحةً لها ! .. ذاتُ الجدرانِ الصخرية تحيطنيْ من كلِ الجهاتِ الأربع ، مشاعلِ الشموعُ تغزو خصوصيَّة الظلامْ وتنشرَّ بقعًا من الضوءٍ فيْ أماكن متفرقة ، بسببها استطعتُ رؤية محتوياتِ الغرفة الأشبه بالفارغة ، وسائدٌ محشوة تعلوْ منصَّة عريضة قصيرة الطولِ مريحَة وبدا شكلها بالإضافة إلى تلك الوسائدْ كمقعدٍ أو أريكةٍ مريحة إنما من الطراز القديمْ ، أعلى تلك المنصة مرتفع مربع الشكل يحوي رسوماتٍ غريبة لمْ أستطعْ فهمَ شيءٍ واحد منها و بزاويتيهِ تتمركز شمعتينِ بيضاوين ، التقطتْ مسامعيْ أنفاسًا لاهثَّة تشبه فيْ حدتها صوتَ تلاطِمٍ قطراتِ المطر بصفائحِ الزجاج ، أيقنتُ بإنذارٍ صارمٍ من قلبيْ بأنَّ ما ستراهُ عينايَّ بعد لحظات لنْ ينساهُ عقليْ قبلَ مضيِّ مدةٍ طويلَة ، أنزلتُ بصريْ للأسفلْ أرمقُ حيوانًا بقوائمه الأربع يقفُ على مقربة من ذلك المكانْ .. لا أدريْ إنْ كانَت تلك الأشياء المتطايرة شعرًا أم لا ذلك لأن بشرته شديدةُ الاسوداد ، تُظهرُ عينيه الصفراوينِ نظرتينِ قويتين صارمتينِ ، أنيابُهُ شديدةُ الحدَّة بارزة ، يبدو فيْ مظهره الخارجيْ ككلبٍ مسعور لكنه يبدو أكثرَ تخويفًا من ذاك الذيْ رأيته فيْ أحد المراتِ السابقَة ، شعرتُ بعينيه تتفحصنيْ بحدَّة بعدَ أنْ ابتعدتَ تلك اليدُ المُلاطِفَة لأعلى رأسِه ، تتبعتُ حركة ذلك الرجلِ الذيْ رمى بجسدهِ على أعلى المنصة على تلك الوسائدِ المريحَة ، لمْ يبدو ليْ مظهره عاديًا بعيدًا عن ملامحه المتعاليَة علمتُ بأنه ذو منصبٍ فيْ هذا المكانْ وقد يكونُ قادرًا على إخراسِ ذلك العجوزِ بنظرة واحدة ، تظهرُ سترتهُ الزرقاءْ منسابة وباستمالة إلى أطرافِ سرواله الأبيضْ ، فيمَ تظهر خصلاتُ شعره الشقراءْ متفاوتة الطولْ بانسيابٍيَّةٍ على جانبيْ وجهه المليحْ ، نظراتُ عينيه تحملُ غطرسة باديَّة وتلك البسمةً الحادة لمْ تعجبنيْ البتَّة ، تساؤلٌ واحدْ ظهرَ فيْ ذهنيْ " من هذا ؟ " . قشعريرة غريبة تزامنتْ مع نبضة عاليَة شعرتُ بها تدبُ فيْ أوصاليْ المتعبة فور أنْ استشعرتُ صوته العميقْ يطرقُ مسامعيْ بنبلٍ واضحْ : هل تمانعُ لو جلستَ هناك ، أماميْ ! أدرتْ عنقيْ أرقبُ المكانَ الذيْ أشار إليه لتوِّه بعينيه ، كرسيٌ غريبْ بلا أذرعْ وبظهرٍ طويلْ ، يبدو طرفه العلويْ شديد الحدَّة ملتمعًا تماما كأنيابِ ذلك الحيوانِ الغريبْ ، هو يطلبُ منيْ الجلوسَ على ذلكَ الشيءْ ؟ ، ابتلعتُ ريقيْ بعمقْ فيمَ زفرتُ نفسًا عميقًا شعرتُ به يؤلمُ دواخليْ المكتنزةَ باختناقْ ، خائفْ ، أجلْ ! ، قادر على المشي ، لا ! ، بالرغمِ من أنيْ أستطيع الشعورَ بقدمَي إلا أننيْ لا أستطيعُ التحكمَّ بها ، دوَّارٌ غريبْ ، و بعثرةُ أفكار برؤيَّة ضبابية ، أنزلتُ بصريْ للأسْفلْ عندما شعرتُ بالظلامِ يسيطر على عقليْ فجأةْ ، عتمة ، سوادْ و لا أثر لضوءٍ عابر ! ، أشعر برأسيْ على وشكِ الانفجار وبنبضات قلبيْ تهتاجُ لأوَّل مرة ! ، مالذيْ يحدثْ لي ؟ ، نهايَّة أم بدايَّة ! ، فكرة الموافقة على القدومِ إلى هذا المكانْ كانتْ خاطئَة ، أنا نادمْ ! ، أما من طريقَة للعودةَ ، طريقة للتخلصِ من كل هؤلاء الأشخاصِ – غريبو الأطوار – من حوليْ ؟ ، ثوانٍ مقيتة ولحظةُ وقوعيْ المنتظرَّة لمْ تأتِ بعد ، إلى متى يجبُ عليَّ تحمُّلُ هذا العذابْ ! ، طرفتُ بعيني لوهلة قبلَ أنْ أبصرَّ المكان مجددَا ، ذات الشابْ والحيوانْ وذات المشاعلِ المضيئَة ! ، ليسَ كابوسًا ولا مفرَّ للهربْ ! ، فرصةْ واحدة وَ خيارٌ واحد ، نهايَّة وبدايَّة ، هل سيكونُ ذلكَ الحلمُ الذيْ أردتُه حقيقة فعلا ، لمْ يكنْ بعيد المنالِ هكذا في الأصل ! .. امتدتْ كفُّ ذلك الشابِ أماميْ إلى الأعلى فجأة ، لمْ أكنْ المقصودَ من هذه الحركة لكننيْ استطعتُ فهمَ بسمته المزعجَة ، لمْ أنتبه على وقوفِ أحدهمْ خلفيْ سلَفًا ، حيثُ تراجعَ خطوتين إلى الخلفْ قبلَ أنْ يتعمَّد أذيتيْ على ما أعتقد ، ضغطتُ على أطرافيْ بقسوَّة قبلَ أن أخطوَ نحو ذلك الكرسيْ بلا حيلَة ، فرصةٌ واحدَة وَ خيارُ واحدْ لواقعٍ مختلفْ ، لحياة متباينَة ! ، رميتُ بثقليْ على الكرسيْ خلفيْ ، بقلبٍ متسائلْ و فكرٍ متلاطمْ ! .. لِمَ أنا هنا ؟ ، لِأُحاسبَ على ذنبٍ لم أقترفه ، يا للسخريَّة ، لم أعتقد بأنيْ سأظهر بهذا الشكلِ يومًا مُدانًا ، مظلومًا ، خائبًا ، وأُعدَّ لمن لا يعرفُ من أكونْ حقيرًا تافهًا ! ، أشعر بخذلانٍ أعلى كتفيْ وبألمٍ ينخرُ ساقايَّ بلا رحمة ، وبسبب هذا الجسد المدلل لا أقوى على تحمل مقدار بسيطٍ من الألم ، انكمشتُ قليلا ، رؤيَّة تلك الخطوط المحمرَّة الظاهرة أسفلَ كمِّ قميصيْ مرعبَّة ، مؤلمَّة وأستطيعُ الشعور بها تذرفُ دمَّا متوجًعًا ! ، رفعتُ عنقيْ ، أبصرتُه يحدِّقُ بيَّ ، لمْ يتحدثْ ولم أفعلْ ، لمْ أكن قادرًا على تفسير نظراته الصامتَّة ، ملامحُ وجهه متعجرفة وتحملُ بسمة ساخرة متهكمَّة ، بدى وكأنه يتفحصني بعينيه قبل أنْ يحررَّ صوتُّه العميقْ أخيرًا : لا يزالُ صغيرًا ليفعلَ مثل تلك الأشيَّاء ، ألا تعتقد هذا ؟ .. سكتُّ فتابع : مجردُ طفلٍ صغير لا يعرفُ كيفَ يتحكم بعقله ، القانونُ لا يعرفُ عمرًا وأنا حاكمٌ عادلْ للأسفْ ! ظللتُ أرمقُه بصمتٍ عجيبَ قبلَ أنْ تميلَ رقبتيْ نحو اليمينِ قليلا ، لا أفهم ! ولا أعتقدُ بأنَّ عقليَّ يمر فيْ حالة جيدة ليقومَ بعملياتهِ المعقدَّة ، ألا يمكنه فقط التحدثُ مباشرة ! ، لا يبدوْ ليْ حاكما ، لا أظن بأنه قادرٌ على تحملِ مسؤولية لقبٍ مثل هذا ! ، متغطرسْ غامضْ ويبدو في مثلِ سنِّيْ ! يا للمفارقة حقًا ! ، لا أدريْ إن كان يقصد التحدثَّ عني ْ أم عن شخصٍ آخر ، لكنه قطعيًا لمْ يكنْ يتحدثُ إلى ذلك الشخصِ خلفيْ لأنه لمْ يستجبْ لكلماتِه على الإطلاقْ ! ، وَ أظنُّه يمر بحالة من الذهولْ مثليْ تمامًا ، عاد ذلك الشاب يتحدث وقد أعجبته طريقةِ الألغاز المبهمَّة تلكْ : بالرغم من أنه تخلى عن عائلته وفكرَّ بالعمل في أعمال غير مشروعة معتقدًا بأنه سيستطيعُ جنيَّ المالِ أكثر إلا أنَّه يخفقُ في كلِّ مرة ، إنه حتى لا يستحقُ بأن يُنادى بمجرمْ لأننيْ أعتقد بأننا نستنقصُ منْ هيبَةِ هذا اللقبِ الكثيرْ !.. أضافَ معقبًا : ألا تعتقدُ هذا " كليفتون " ؟ .. هل هو اسمُ ذلك الرجلِ الذيْ يقفُ خلفيْ ؟ ، أدرتُ عنقيْ برفقْ لأنظر إلى ملامحٍ قاسيَّة شديدة الحدَّة ، يتدثَّر جسده القويْ بالسواد أسفلِ ردائه الطويلْ فيمَ لا زالتُ عينيه الثاقبتينْ تنظرُ نحوَ بقعَة واحدة لمْ يحِد عنها منذ البدايَّة ، مخيفْ ويبدو شديد اللهجة قاسْ ، استطعتُ الشعورَ بقشعريرة غريبة تستوليْ على جسديْ فور أنْ رأيتُ حدقتيه تنظرانِ إليْ خلسَّة ، ابتلعتُ ريقيْ بصعوبة ، كرهتُ تلكَ الرعشَة الغبيَّة والتيْ أطاحت بآخرِ ذرة من تعقليْ ، حرفيا بدأ الهواء ينقطع عن رئتاي المختنقتين ، هذا الرجلْ سيتمكن أن يقتُل بعينيه لو استطاع ، لقد جمَّدنيْ عن الحركة قبل لحظات فقطْ ! يملكُ نظرتين مذهلتينْ ، مرعبتينِ وصاعقتينْ ! ، وَلا أظن بأنيْ سأرغبُ فيْ مقابلة شخصٍ مثله مستقبلًا ، أبعدتُ عينايَّ أرقبُ منْ عادَ يتحدثُ ساخرًا : غلطتُكَ ستحاسبُ عليها ولأنك كنتَ سببًا فيْ كارثةٍ على وشكِ الحدوثْ فسيلحقُ بكَ العقابْ أيضًا ! .. أحنىَ ذلك الرجلْ رأسه معتذرًا فيمَ أكملَ ذلك الشابْ حديثُه : لقد قامَ هؤلاء المغفلونْ بعملٍ يظنونه بطوليًا ، لنْ أعتذر لشدة نقصِ عقولهمْ أو فظاظتهمْ إليكْ ، لمْ تكنْ تنتظر شيئًا مثل هذا منذ البدايَّة كما أعتقد .. أضافْ : على كلٍ اسمعْ جيدًا ، صحيحٌ بأننيْ حانقٌ الآنْ ولكنْ أظنُ بأنَّكَ في وضعٍ لا يُحسد عليهْ ! ، ذلك الغبيْ الذيْ نبحثُ عنه الآن يفلتُ بالهربِ فيْ كل مرة ، وذلكَ يسببُ ليْ وجعًا فيْ الرأسْ بسبب إلحاحِ الآخرينِ بكثرةِ شكواهمْ منه ، لأننيْ أعتقد بأن الخبر " المزيفْ " على إلقائنا على ذلكَ اللصِ سينتشر قبلَ حلول الصباح ومن أجل ذلكْ سأقدِّمُ حلا مرضيَا لكل الطرفينْ ! .. سكتَ فأردفْ : إنْ لم تستطعْ الهربَ من أيديْ هؤلاءِ الرجالِ بعد هذه اللحظَة فسأضطر إلى احتجازكَ على أنكَ أنتَ هو ذلك اللصْ ، لن أذكر بأن ذلك سيشكل طُعما لذلك الآخر لذا فسيتسنى لنا القبضَ عليه عندما َيفكر بالتحققِ من الأمْرِ وسأفكر فيْ أمر إطلاقِ سراحكَ حينها ! .. ابتسمْ ! ، قدْ يكونُ ذلك الخطُ على شفتيه إشارة على نهايَة المحادثَة بيننا لكنها أشعلتْ نارًا حارقة فيْ دواخليْ الملتهبة بأسئلةِ لا حصر لها ، ليستْ كذلك حقا ، إنه سؤالٌ واحد أرغبُ فيْ رميه أمام تلك العينين المتحاذقتين " هل أنتَ جاد ؟ " ، أعنيْ حقًا أين الجديَّة فيْ هذا الأمر ! ، ألا يبدو الأمر أشبه بلعبَة خيالية مختلقَة ولا أصلَ لها ! ، هيَّ كذلكَ حقًا ، بالنسبة لشخصٍ قامَ بلمسِ الذهبِ فور ولادته هوَّ لنْ يعرفَ مدى قيمة حياة الأشخاصِ الآخرين من حوله ، فيْ هذه اللحظةِ شعرتْ بحرارة غريبَة تتآكلُ جسديْ المرتجفْ ، رعشةٌ غريبة وهذيانٌ لماضٍ سابقٍ يُنذر بالعودة ، ذكرياتٌ موحشَة و مخاوفٌ متوجسَّة استعمرتُ قلبيْ – مجددًا - ، عقابْ ، حبسْ ، وحدةْ بفشلٍ لا يرحمْ ، انكمشَ جسديْ ، ضغطتُ على أطرافيْ بقوَّة ، قبلَ أنْ أرفعَ بصريْ أخيرًا نحوه ، حدَّقَّ بيْ وحدقتُّ به ، تبسَّمَّ ساخرًا فيمَ عبستُ مُعارضًا ، لا يحقُ له فرضَ أوامرٍ غير صحيحة ، عشوائيَّة ليتخلَّصَّ من حملٍ أثقلَ ظهره : لا أريدْ ! .. كلمةٌ قصيرةْ تفيْ بالغرضْ ، ولنْ أُجبرَ على شيءٍ لا أريده – ثانيَّة - ، أعقبَ قائلا : لا بأسَ بذلكَ ، إذًا أيها السيدِ اللطيفْ لتعْدْ إلى المكانِ الذيْ عدت منهْ ، أظنَ بأن معصميكَ قدْ تاقتا إلى تلك القيودِ الحديديَّة رغمَ أنكَ فارقتها منذُ فترة قصيرةِ ! .. مجنونْ ، غبيْ ، وبعقلٍ صغيرٍ لا يستطيعِ أنْ يحكمَ ! ، شتائمٌ نطقتهَا بداخليْ قبلَ أنْ تترجمها نظراتيْ الصارخةِ بحقدٍ عجزتُ عن إخفائه ، أقسمُ بأننيْ لو لم أكنْ في هذه الحالة ! ، لو لمْ أكنْ مستضعفًا إلى هذه الدرجة لكنتُ استطعتُ إيقافَ ذلك الرأسِ عن العملْ ! ، لكنيْ لا أقدِرْ ، إدراكيَّ الذيْ اختلَّ فجأة وجعلنيْ أتصورُ بأن ذراعيْ أصًبحت تحتَ رحمةِ حيوانٍ لا يرحمْ ، وقدمايَّ التيْ عانقتْ جاذبيَّة قاسيَّة قبَّلتْ ركبتايَّ المتواترتينْ بارتجافٍ مختنقْ ، استطعتُ الشعُورَ بألمٍ فيْ كتفيْ بينما رفعتُ عنقيْ المتصلبْ أرقبُ ذلكَ الرجلْ الذيْ أمسك بذراعيْ بقسوة راغبًا فيْ تنفيذِ أوامر سيده الحاكمْ ، أنفاسيْ اضطربتْ هلعا بصدريْ ، يرتفعْ ويهبطْ خوفًا من توقفِ نبضاتِ قلبٍ متعجلَّة ، جذبنيْ بقوَّة للأعلىَ يجبرنيْ على الوقوفْ لولا أننيْ أمسكتُ بمعصمه بقوَّة فور أنْ التقتْ عينيَّ بخاصتيه ، تناسيتُ ألمَ جراحيْ المكتنزة و أمر تناقصٍ أنفاسيْ الثائرَة كلُ ما استطعتُ رؤيتهَ فيْ ذلكَ الرجلْ هوَ .. الظلامْ ! .. ملامحه المقيتة المخيفة جعلتْ من عقليْ يصبحُ فارغًا فجأةْ ، خاليًا من أيَّة أفكار متوترة ! ، ضيقٌ شديد ألمَّ بصدريْ ، بتُّ أستشعر عروقيَّ تنبضْ ، تتوسلْ ، بقلقٍ استفحلَ دواخليْ بأنْ ينتهيَّ كل شيءْ ! ، لا أرغبُ فيْ خسارةٍ حياتيْ هكذا ! ، لمْ أستطِع عيشَ حياتيْ كما أريد وليسَ من العدلِ أن أفقدها بهذه الطريقَة ! ، بالرغمِ منْ صعوبة وغباءِ الأمر فيْ الوقتِ نفسِه ! ، رغمَ أننيْ لا أملكُ فرصةً مع هذا الجسدِ الضعيفْ لكننْيْ أرغبُ بالمحاولة ، أريدُ أن أجرِّبَ لمرةٍ واحدة ! ، أفلتنيْ ذلكَ الرجل بقسوة امتثالا لأمر ذلك الشخصْ ، ترنَّحْتُ فيْ وقفتيْ لدقائقْ واستطعتْ رؤيَّة الأشياء من حوليْ تتداخلْ للحظة أمام مرآيْ لولا أننيْ تداركتُ الوضعَ أخيرًا ، التقتُ نحوَ ذلك الشابِ المزعج ، أخبرهُ أخيرًا بأننيْ إنْ حدثَ و استطعتُ الهربَ هذه المرة فسأعودُ ثانيَّة لأجعله يتذوقُ مرارة خياراتٍ لا علاقة لحياتِه بها ، إنْ لم أستطعْ فسأظهر فيْ كوابيسه كل ليلة لأنتقمْ ، هل كانَ هذا ما سأقولُه حقًا ! ، جذبتُ الكثيرَ من الأنفاسِ قبلَ أن أردفَ متمتما : العالمُ الخارجيْ قاسٍ فعلاً ! .. بقيَّ صامتًا للحظة قبلَ أنْ يتحدثَ: العيش في شرنقة للأبد أفضل دائما ، ذلك لأنه قدْ يُكسر جناحكَ عندما تُفكر بالطيرانِ ، ألا تظنُ هذا ، أيها السيد اللطيفْ ؟ .. . . [ توقفْ عن الهذيانْ ، إنه لمْ يفعلْ شيئًا خاطئًا ، كلُ ما أراده هو حمايتُكَ فقطْ ، لمْ يسلبْ منكَ حياتك ولم يرغبْ فيْ جرِّكَ إلى مشاكلَ لا طائل لها ، لكونكَ صبيًا طائشًا غير واعيًا فكرتَ به بتلك الطريقة لا أحدَ يستطيعُ لومه ، فلا أحدَ يستطيعُ لوم شخصٍ على محبتِه لشخصٍ آخر ] .. . . فكِّر بقلبكَ قبلَ عقلكْ ! ، فكر بعقلكَ قبلَ قلبكْ ! ، أيُّهما ستقودنيْ إلى طريقِ إيمانيَّ بالخلاصٍ السرمديْ الذيْ أنتظرُه منذُ زمنْ ، قلبيَّ النابضْ ذوْ سجيَّة رحيمَة متباينَة أمْ عقليَّ الذيْ يجبرنيْ على أخذِ قراراتٍ بعيدة عن منطقيَّة جليَّة ، لمْ يسبِقْ ليْ تجربَة الخضوعِ إلى أحدٍ منهما ، دائمًا ما كانتْ خياراتيْ المحدودة تؤخذُ بعينِ الاعتبار من قِبلِ أشخاصٍ يجدونَ بأن لهمْ الأحقيَّة التامة فيْ النظرِ بذلكْ ، لمْ يسبقْ ليْ وأن شعرتْ بالتردد أو الخوفْ ، لمْ أعتقدَ بأنه عندما يخيَّرُ المرء بينَ خيارينْ لا يستطيعُ تفضيلَ أحدهما على الآخر قد يشعُر بدواخلهِ تجرفُه إلى ما هو أبعد من الواقعية بكثير ! ، قراري الأول قد اتخذته هذا اليومْ ، اختياريْ الأولْ هل سأكونُ قادرًا على المُضيِّ فيهِ حتى !.. قدمايَّ تصرخُ مطالبَة بإعفاءٍ قسريٍ لها منْ حملٍ لمْ تعد قادرة على إسنادِه ، لأول مرة أشعر بساقيَّ غير قادرتين على حملِ جسديْ ، بدأت أستشعر حرارة غريبَة تنتشرُ بأصابع أكفَّيْ المتمردَّة ، فيْ كل مرةٍ كنتُ أعانقُ بها أحد الأبوابِ أعودُ بذاتِ الخذلانِ السابقْ ، أقودُ نفسيْ إلى دوامة لا يبدو وبأن هناك نهايَّة لها ، وبسبب الظلامِ المنتشر فيْ أرجاءِ هذه القلعةَ لمْ أكن قادرًا على تبصُّر الأشياء من حوليْ جيدًا ، توقفتْ عن الحراكِ للحظة ، لا فائدَة من الهربْ بهذه الطريقة العشوائيَّة الغبيَّة ، إننيْ فقطْ أتوه فيْ هذا المكان أكثر فأكثر ، أولئك الرجال سيقدرونَ على إمساكيْ فيْ أيَّة لحظة ولا أستبعدُ ظهور أحدهمْ بشكلٍ مفاجئْ ليْ رغمَ أننيْ لم أستمع لخطواتِ إنسيٍ خلفيْ منذ مدَة ، هل كانَ ذلك الشابْ يكذبُ عليْ ! ، يسخرْ ! ، ضغطتُ على أطرافيْ بقوة لأنتصبَ واقفًا فيْ مكاني .. يبدو بأنني وصلت إلى طريق مسدود آخر ، على يساري درج يؤدي إلى طابق سفلي مظلم لا أثر لضوء له بينما أمامي تستقر نافذة عريضة ، إلى أينْ سأذهبُ الآن ؟ ، لو فتحتُ تلك النافذةْ فهلْ ستكسر قدميْ بسببِ ارتفاعٍ لا أعلمُ عنْ مدىَ طوله ، وإنْ اتخذت ذلك الطريقَ المظلمْ هلْ سأعودُ منْ حيثُ بدأتْ ، تائها ضائعًا فيْ ظلامٍ سرمديْ لا نهايَّة له ! ، فكرتُ لمدة لا تتجاوز الثانيتينْ وَلأنَّ قرار المحاولة الذيْ اتخذته فيْ بادئِ الأمر كانَ مجنونا لا بأسَ بأخذِ قرار أشدَّ جنونا وربما أكثر حماقَة منه ! ، استدرتُ سريعًا لتعانقَ قدمايَّ درجاتِ ذلك السُّلَّمْ المتتابعة ، خُطوَةً بخُطوَة نحوَ الأسفلْ ، فيمَ تتلمسُ أصابعيْ الجدار الصخريْ بجانبيْ لن أرغبَ فيْ السقوطِ وإتلافِ آخر ما بقيَّ ليْ نظيْفًا منْ ملابسيْ ! ، تغلَّفُ الظلمة قلبيَّ النابضِ بهدوءٍ قسريْ فيمَ تسبحُ عينايَ فيْ اللا مكانْ ، هذا الصديقُ القديمْ عشقتُه منذ زمن ! ، رغمَ أننيْ كنتُ دائمًا محاطًا بجدرانٍ مملة إلا أنه كانَ ملازمًا ليْ فيْ كل وقتْ ، أجده دائما في زوايا الغرفة ، أسفل المنضدة ، وقد يتشكلُ على شكلٍ جسديْ أيضًا ! ، بقعة الظلامْ السوداءْ ، لمْ تكنْ مخيفَة بقدر كونها ممتعةَ مريبَة ومحببَّة ! هوَّ لنْ يسمحَ لكَ برؤية ما ترغبْ ولكنه سيَسمحُ لكَ بسماعِ ما تريدْ ، قدْ لا يكونُ مفيدًا بالنسبَة لكْ لكنه كذلك لقلبكَ وعقلكَ معا ، إذ أنه سيجعلكَ تغوصُ بعيدًا ، يسمحُ لكَ بالتفكيرِ بطريقة هادئَة بدونِ أنْ تلوثَ مسامعكَ بصخبِ هذا العالمِ المزعجْ ! ، صديقيْ القديمْ أهلاً بكْ مجددًا ! .. بالمناسبَة منذ متى وأنا أسير بهذه الطريقة الملتوية ، درجاتِ هذا السلمْ يبدو وبأنَّ لا نهايَّة لها أبدًا ! ، هل تقودنيْ إلى القبوْ ! ، سطعتْ تلك الفكرة فيْ ذهنيْ فجأة لأشعرَ بنباهتيْ تنذرنيْ بمدى خطورة هذا القرار الغبيْ الذيْ اتخذتُه ، لو كانَ قبوا فقد يأخذ منيْ ذلك من الوقتِ الكثير لأصعد ثانيَّة وحينها ستضيعُ فرصتيْ في الهربْ ! ربَّاه لماذا لم أفكر بهذا سابقًا ، كنتُ متعجلًا غبيًا ، اختلَّ توازنيْ للحظة ذلكَ عندما ارتطمتْ قدمايَّ بالأرض القاسية ، لقد انتهتْ رحلتيْ على تلك السلالمِ كما يبدوْ ، إذْ أننيْ بدأتْ أخطو بشكلٍ مستقيمْ نحوَ الأمام ، نحوَ تلك البقعة المظلمة والتيْ سمحتْ لقليل من نسائمِ الليل المنعشَة بالتسلل إلى الداخلْ ! .. . . فراغْ ! ، خواءٌ أربكنيْ لحظَة شعوريْ بنسائمٍ لطيفَة تداعبُ أطرافَ قميصيْ ، حملٌ ثقيلٌ ارتدَّ على عنقيْ فور أنْ رفعتُ ناظريَّ أُبصرُ سماءً سوداءَ مختنقَة بلآلِئَ تضاهيْ بعددها كلَّ شيءْ ، تسْطَعُ متباهيَّة ! ، بتفاخرٍ كاملْ ، تحييْ بعضها بلُطفٍ غامضْ فيمَ تستمدُ قوتهًا من صاحبتهَا ، لآلئُ السماءُ الساطعَة لم يسبق ليْ رؤيتها هكذا من قبلْ ! .. فسيحة ومنبسطَة ، بلْ أكثرُ من ذلكْ ! ، رؤيَة حجمِ السماءِ جعل من أوصاليْ المرتجفَة تخفقُ بدهشَة مثاليَّة مترددة ، الإحساسُ بنبضاتِ قلبيْ تدبُ فيْ جميعُ أطرافيْ ، تخبرنيْ بيقينٍ واهنْ بأنَّ ما تراهُ عينايَّ ليسَ بزيفٍ أبدًا ، إنها السمَّاءْ ، تلكَ السماء التيْ أردتُ تأملهَا ، تلكَ ذاتُهَا حقًا ! ، رعشةٌ بسيطة أيقظتنيْ من غفلَة غامرة ، ابتلعتُ ريقيْ لوهلة قبلَ أنْ أرفعَ كفيْ أتحسسُ رأسِيْ الذي بدأ يؤلمنيْ قليلاً ، دموع ! ، جفلتُ للحظَة ذلكَ عندماَ أحسستُ برطوبة غريبة على أطرافِ أصابعيْ .. جذبتُ الكثيرَ من الأنفاسْ بغيَّة أن أدركَ وضعيْ بقوَّة ، بدأتْ أبحثُ عن الأشياءَ من حوليْ ، لا شيءَ غير وجود الكثير من الأشجار حوليْ ، الباب الخلفيْ لتلك القلعة المشؤومة يُطلُ على جهةٍ خاليَّة من أيِّ شيءْ ، خطوتُ عدَّة خطواتٍ نحو الأمامِ بترددِ واضحْ ، مالذيْ يجدر عليَّ فعله هل انتهتْ لعبة المطارة الغبيَّة تلك ، هل أتوقفُ الآن ؟ ، استدرتُ أرقبُ حجمَ ذلكَ المكانْ ، لا أظنُ بأن أحدًا يعتقدُ بأنَّ هناكَ أشخاصًا يستطيعونَ العيشَ فيْ هذا المكان ! ، حتى لو لمْ أدخل إليها سجينا منذ البدايَّة لكنها تمتلكُ هالةً كريهةً محبطَة لمن يراها لأول مرة ! ، إنها فعلا مكانُ يعجُ بأناسٍ غير " واقعيين " فعلا ، ارتعبتُ لبرهة فور أن التقطتْ مسامعيْ أصواتًا قريبا من المكانْ ، صوتُ الكثيرِ من خطواتِ الأقدامْ قادمة من ذلك المكانْ ! ، مالذيْ يعنيه هذا ؟ هل فكروا البدء فيْ مطاردتي بهذه اللحظة في الذاتْ ! .. هل كانَ يقصدُ ذلك الشابُ المغفلُ إعطائيْ فرصةً للتخلصِّ من مساراتِ القلعة المتشابكة أولًا ! ، لا أستطيعُ فهمه ! ، ذلك الشخصُ لمْ يسبقْ لي رؤيَّة أحد مثله على الإطلاقْ ! ، إن كان الأمر كذلك فأول شيءٍ سيفكرونَ به هو الباب الخلفيْ حتمًا ! ، المطاردة الحقيقية بدأت الآن فقط ! ، غير معقولْ ، مستحيلْ ، لحظاتُ الأمل التيْ استشعرتها قبلَ قليل لم تكنْ سوى نعيمًا مؤقتًا ، استدرتُ سريعًا إلى الخلفْ أركضُ بطريقةٍ عشوائيَّة ، أحاولُ اختيار مسارٍ أسلكه هذه المرة ، نحوَ الأمامْ ! ، ساعدنيْ يا إلهيْ ، مالذيْ يمكننيْ فعلُه ! ، قد أُمسَكُ فعلا هذه المرَّة ، كثرةُ الأشجار المنتشرة فيْ هذا المكانْ شيءٌ جيدُ بالنسبة ليْ رغمَ أننْي لا أستطيعُ التركيزَ حقًا ! ، سلكتُ أحد الطرق بعشوائيَّة مبهمة كلُ ما كنتُ أفكر فيه هوَ الغوصُ أكثر بينَ هذه النباتاتْ فمن خلالها قد أجد سبيلًا للهربْ ، أمسكتُ صدريْ بكلتا كفيَّ حيثُ بدأ يؤلمنيْ فجأة ، توقفتُ في مكانيْ أخيرًا ألتقط الكثير من الأنفاسِ المضطربة ، لقد ركضتُ لمدة طويلة ولا أظن بأنيْ أمتلك القدرة على التحملِ أكثر ، صدريْ يؤلمنِيْ ، تباطأت خطواتيْ كثيرًا عن السابقْ ، أجرُّها جرَّا ، محاولا البحثَ عن أيِّ شيءٍ قد يساعدنيْ في مثل هذه اللحظةِ الحرجَة ، أسندتُ ظهريْ على أحدِ جذوعِ الأشجارِ بلا حيلَة ، أظنُ بأننيْ أستطيع التنفسَ براحة أكثر الآن ، أدرتُ رأسيْ يمينا ويسارًا لكننْي فكرت بأنَّ الربَّ قد استجابَ لمطلبيْ ذلكَ عندما استدرتُ إلى الخلفْ ، هناكْ ، بالقربِ من أحد جذوع الأشجار ، هل هو حقيقَة أمْ سرابْ ! .. ذلكَ الشيءِ الواقفِ باستقامة هناكْ ، ما سينقذنيْ في هذا الموقِفْ ، اقتربتُ منه عدة خطواتٍ مرتبكة غير مصدق لأمر وجودِه أماميْ ، ما يقالُ دائمًا " لمْ أكنْ أتوقعْ أن يصبحَ ما تخليتُه حقيقةً أمام عينايَّ " ، ذلَكَ ما حصلَ معيْ فعلا ، أدار ليْ رقبتُه الطويلَة بهدوءْ رغمَ أنه لمْ يستطعُ التحركَ بحرية بسببِ لجامه المربوط بجذع الشجر الطويلْ ، أسمرٌ نبيلْ ، بشعرهِ الطويلْ ، وخطٍ أبيضْ رفيعْ ينزلقُ من أعلى هامته إلى الأسفلْ ! ، عيناهُ كالبلَّورِ نقيَّة ، بهيَّة فاتنة ! ، تحدثنِّيْ بكرمٍ باذخْ ، استشعرتها تصلُ إلىَ أعماقِ دواخليْ المضطربَة ، اشتقتُ إليْه ! إنَّه يذكرنيْ بالخيلِ الذيْ امتلكته فيْ مزرعةِ عميْ يومًا ، رفعتُ يديْ بقلق واضحْ أحاولُ لمسَ وجههِ الطويلةَ ، مهما فعلتْ فقد بقيتْ أصابعيْ عالقَة بمسافة بسيطة عنه ، لمْ أستطع ، أخشى أنْ يهرب ، يخافْ أوْ يثور نتيجة غير تآلفه مع الغرباء ، حينها ستكونُ هذه نهايتيْ بالفعلْ وقد أعيشُ سَجينًا مدانا طوالَ الأيامِ القادمَة ! ، أغلقتْ عيني بقوَّة خائفًا ، متوسلا ، رجاءً ، أتمنى ألا يحدثَ هذا معيْ ! لا أريدُ أن أكونَ كذلك على الإطلاقْ ! ، أريدُ فقطْ عيشَ حياتيْ المُقبلَة بسلامٍ فقطْ ، بدونِ مخاوف ، آلامِ أو أنينْ ! رعشَةُ بسيطة دبَّت فيْ أوصاليْ حينما فكرتُ بذلكَ حقًا ، هل تستطيعُ مساعدتيْ ؟ ، لا أريد ، لا أريدْ ، فتحتُ عينايَّ بقوة عندما شعرت بضربة خفيفة تلمسُ باطنَ كفيْ الممتَدَّةِ نحوه ، استطعتُ الشعورَ بأنفاسِه المتلاحقة تضربُ أصابعيْ بلطُف ، وبوجهه أقربَ أكثر ! ، صوته النبيلَ الذيْ حُررَّ منْ حنجرةِ ذهبيَّة أصيلَة ، قدْ بدى ظاهرًا بأنه يستلطفنِيْ بعتابٍ واضحْ ، لمْ تكنْ لأفكاريْ السابقَة أيَّة قيمة ، لقد كنتُ مترددًا منْ أجلِ لا شيءْ ، أُزِيْحَ ثقلٌ كبير من على كتفيْ لأمسحَ عليهِ برفقْ بينما لمْ أستطع أنْ أكتمَ افترارٍ واضح أمامه ، ممتع ، شكرًا لكْ ! .. . . أعلنت الدقائق عدم انصياعها لأمر الرتابة الأزليْ بثوانٍ متسارعة ونبضاتٍ خافقة لمْ تتوانى عنْ تبذيرٍ لحظاتٍ كاذبَة عقلهُ يختنقْ بأفكارٍ مزعجَة وَصدرهْ يضطربْ بأنفاسٍ ثائرَة عندئذِ سأل نفسه باكتراثْ لماذا وُلِد ؟ ، فيْ اليومَ الذيْ نبضَ فيه قلبه لأول مرة هوَ ذاتُهُ اليومُ الذيْ أَصبحَ فيه جزءًا من هذا العالمْ ! حياةٌ معاكسَة ورغباتٌ لم يُكتب لها أنْ تحققْ ! .. أَسَمَعْ ! ، أعلمُ بأنْهمْ خلفِيْ تمامًا ، يصنعونَ طريقَهمْ إليْ ، إلى سجينِ مزيفْ قدْ يعطيهمْ الخلاصُ المؤقَت من كارثةٍ حمقاءْ ، لا أحد يستطيعُ تزييْفَ الحقيقة ! ، لا أحدَ يقبلُ بالظلالِ دونَ الأصلْ ! ، ضغطتْ على أطرافيْ بقسوَّة بينما أُفرِغُ ما أشعُر به على ذلكَ اللجامِ الأسودِ بينَ أصابعيْ ، رياحِ الليلِ أًصبحتْ أكثر برودة ، وَ تلك النسائمُ اللطيفَة اختفتْ بلا رجعَة ، وقتُ تحديدِ المصيرْ قدْ بدأ الآن ! ولا مجالَ للتراجعِ على الإطلاقْ ، أستطيعُ الشعور بتوتريْ يسيطر على مشاعريْ ، لستُ جيدًا كفايَّة لأتحكمَ بقلبيْ ، لذا فإنَّ نبضاته المختنقَة تنقلُ اضطرابهَا المبعثر إلى كل أنحاءِ جسديْ ، ابتلعتُ ريقيْ بصعوبَة قبلَ أنْ أنظر أكثر إلى المسار الذيْ بدأت فيه مؤخرًا ، تتجاوزنِيْ العديد من فروعٍ الأشجار الطويلة ، وتضربنيْ كثيرٌ من الأغصانُ المتساقطة ! ، أستطيعُ الشعور بالألمَ على وجنتيَّ المحمرتينْ ، لقد قاسيتُ كثيرًا اليومْ ، أتمنى أنْ ينتهيْ كلَّ شيءْ كما أريد ، كما أرجوْ فعلا ! ، جذبتُ الكثير من الأنفاسْ قبلَ أن أبعد أصابعيْ قليلا أضربُ مؤخرةَ عُنِقِ الحصانِ برفقْ ، لا تتوقفْ ، ابذُل جهدكَ مصيريْ بينَ يديكَ ، صديقيَّ العزيزْ ! .. أدرتُ رقبتيَّ إلى الخلفْ أنظرُ إلى من تخلى عن كلِّ شيءٍ وراء ظهره وقرر ملاحقتيْ بسببِ أوامر سيده – الظالمَّة - ، ثلاثةٌ من الرجالِ الأشداءْ على خيولهمْ النبيلَة ، تجيفُ الأرضَ بخيلاءٍ سريعْ ، غير آبهة بمقدار الدمار الذيْ سببَّته للنباتاتِ القريبة ! ، بقيَّت عينايَّ عالقة على ذلكَ الشخصِ فيْ الوسطْ ، بعينينِ متقدتينِ ، طامعتينْ بمكافأة قد تُسبَغ عليه نتيجة قيامه بمثلِ هذا الأمر البطوليْ التافه ، إنه ذاته ذلك الشخصِ الذي كان برفقتيْ في تلك الغرفة ، " كليفتون " إنْ لم تخنِّيْ الذاكرَة ! ، علمتُ بأنه لمْ يستلطفنيْ منذ اللحظة الأولى حتى أنه أرادَ أخذيْ إلى غرفة العقابِ بدونِ رحمَة ، أتساءَلُ إن كانَ يملكُ قلبًا فعلا ! ، هل هنالكَ أناسُ بمثلِ صفاتِ هذا الشخصِ يا ترى ؟ ، يغدرونَ ، يكذبونَ ، وقد يتخلَّون عن كلِّ شيءْ فقطْ من أجلِ مصالحٍ غبيَّة ! لا أستطيعُ التصديقْ ، غيرُ قادرٍ على فهمِ عقولهِم حتى ، كيفَ بإمكانهمْ التفكير بأشياء خبيثةً بكلِ بساطَة ! .. دبَّ رعبُ غريبٌ في قلبيْ ذلكَ عندما رأيتُ بسمته اللئيمة تظهر على ملامحِه المستفزة بشكلٍ مفاجئْ ، هنالكَ شيءٌ خاطئ ، مالذيْ يجري ؟ ، عدتُ أنظرُ إلى الأمامِ أحاولُ تخمينْ ما قد طرأ فيْ عقله فجأة ، لا يوجد شيءٍ يدلُ على ريبة غير أنَ الأشجار والنباتْ بدأتْ تقلُ أكثر فأكثر حتى وصلتُ إلى منطقةٍ خاليَة بلْ مليئَة بالترابْ فقط ، جذبتُ لجامَ الحصانِ بقوة أستجديه بأنْ يتوقفْ ، لا تتحركْ من فضْلكَ ، تباطأ ، لمْ يكنْ هذا ما أطمحُ إليه منذ البدايَّة ، أرجوكَ استمِعْ إليْ ، لا أريدْ ، أكرهُ ذلكَ ، أن تسير الأمور بعكسِ ما أريدْ ، أنْ أرى بأننيْ على خطأ – ثانيَّة - ! ، فقدتُ قدرتيْ على التحكمِ بهِ ، لأشعرَ بتوازني ْيختلُّ فجأة ، ماهيَّ إلا ثوانٍ فقط حتى أحسستُ بجسديْ .. يهويْ ! .. رفعتُ رأسيْ أنظر إلى ذلكَ الجرفِ العاليْ يبتعدُ عنيْ بتسارعٍ أكبر ، بينما ترحبُ بيَّ الرياحُ الباردةَ باستقبالٍ حارْ ، آخرُ ما استطعتُ رؤيته هو وجه ذلك الرجل على خيله يرقبنيْ بذاتِ العينين الثاقبتينْ ، يتحدانيْ قائلا بأنهُ ربما لمْ يستطع الإمساكَ بيْ لكننيْ فيْ الوقتِ ذاته لم أستطع الهربَ منه ! ، ارتطمَ جسديْ بشيءٍ متموجٍ أكثر برودة ، منعنيْ عن التنفسْ ، وقامَ بتشويشِ رؤيتيْ أكثر ، داعبَنيْ ملاطفا ، لقد بذلتُ جهديْ حقًا لكنْنيْ لم أصل إلى مراديْ ! ، النهايَة قادمة لذا لا مفر ، استطعتُ الشعور بالمياه تبتلعنيْ أكثر فأكثر ، تجذبنيْ إلى الأسفلْ باختناق غير آسِفْ ، ما زالتْ أًصابعيْ معلَّقة نحو الأعلى مطالبَة بخيطِ من الأملْ تتمسكُ به ، لكِن ذلكَ لمْ يحصل ! ، هل كان ذلك الأمر منذ البدايَّة ؟ ، ربما لمْ يكن مقدرَّا للأمر أنْ ينتهيَّ بمثل هذا الشكل لكنه حدثَ فعلا ، لمْ أكن لأدعوهُ سوءَ فهمْ لأنه بالفعل كانَ واقعًا مريرًا ، أمر اعتقاليْ في المنزلِ حتى بلوغيْ الثامنةَ عشرة لأنتقل بأمر قسريْ للعيشِ مع عميْ في الريفْ ، لمْ يكنْ أمرًا مقبولا ولمْ أستطع فهمَ الدافعِ وراءِ مطلبه – الظالمِ – هذا ؟ ذلك لأننيْ فقدتُ القدرة على الكلامْ لفترة ، لمْ أستطع التواصلَ معَ الآخرين بشكلٍ جيد ، ومُنعتُ من تكوينِ صداقاتٍ بسيطَة ! ، كلُ ماكنتُ أراهُ فقطْ ، جدرانْ ، ظلامْ ، وصديقيْ المتشكِّلِّ على جسديْ " بقعة الظلامْ " ! ، لمْ أفهمْ بأنه كانَ يقصدُ حمايتيْ منذ البدءْ ! ، ربما لأننيْ طالبتُ بحريَّة قد تجلبُ مصائبَ لا طائلَ لها ، هداياه الثمينة ، والتحايَّا البسيطة التيْ يُسمعنيْ إيَّاها فور رؤيتيْ ، فكرتُ حينها هل كانَ يعانيْ مثليْ أيضَا ! ، ظروفُ عملِه التيْ أجبرته على الاختلاطِ بالآخرين أكثر منيْ فرضتْ عليه أمرًا لربمَا فهمه بشكل خاطئ ! ، أنْ يحبسنيْ بعيدا عن العالمْ خوفًا عليْ ، لربما أخطأتُ في عدمِ إعطائه الفرصَة ، علمتُ بأن الشعورَ الذيْ نبضَ بالحقدِ نحوَه لم يكنْ " الاختيار الصحيح " منذ البدايَّة ! ، قشعريرة غريبة استولتْ على مداركيْ فور أن أدرتُ جسديْ إلى الخلفْ مسايرًا حركة المياهِ المعانقَةِ ليْ ، انبلاجٌ عابرْ ظهرَ من العدمِ فجأة ، أبيضْ ، متوهجْ ، مثير ومخيفْ ! ، فكرتُ حينها أليسَ منْ المعقولِ أن يكونَ عمقُ البحرِ مظلمًا ، مخيفًا ويائسًا ! ، يا للمفارقة العجيبَة حقًا ! ، استطعتُ الشعور بجاذبية غريبة تأسرنيْ بحماسٍ فاتنْ نحوهًا ، دواخلي ْالتيْ انتفضتْ فجأة أجبرتنيْ على منحِ جسديْ الحرية التامة فيْ الاستسلامِ لها ، مترجمًا طاعتيْ ببسمةٍ غريبة ظهرتْ على شفتيَّ المضطربتينْ ! .. قد يكونُ اليوم الرابع من شهر مارس الثالثَ اليومُ الذيْ بدأتُ فيه تعاستيْ ، اليومُ الذيْ أُوصدتْ فيه الأبوابَ أمامَ وجهيْ ، لكنه ذاته اليومْ الذيْ استطعتُ فيه التماسَ حقيقةٍ مؤلمةً بيديْ ! فرصةْ واحدة وَ خيارٌ واحد ، نهايَّة وبدايَّة ، ذلكَ الشيءُ الذيْ طالبتُ به منذ البدايَّة كان أمامَّ عينايْ لكننيْ لمْ أستطع النظر إليه ! .. سيديْ العزيزْ ! هل تعرفْ تساقطُ الأوراقِ فيْ فصلِ الخريفْ لا يعنيْ نهايَة المصيرْ بل بدايَّة لروحٍ جديدة ! حقيقَة قلبكَ النابض بإيمانٍ صادقْ ، أنفاسكَ اللاهثَة ودواخلكَ المرعوبَة ! ، ربما يجبُ عليكَ أنْ تفكر فيْ الأمر مجددًا ، حياتكَ المسلوبة لنْ تعودَ إذا أردتَ ذلكْ ! ، لكنها ستفعلْ يومًا ما ، شعورك بالأمل الراحل قدْ يعاود زيارتكَ ثانيَّة ! ، يقينك القويْ بمبادئكَ الشريفَة ! ، فلا تعني النهاية الظلام دائما ! .. أَسْوَدْ ، أَسْوَدْ ! ديجورٌ ، عتمَة ! اختناقٌ وحيرَة ! البطاقة الرابحة فيْ ورق اللعبْ ؛ و الملك فيْ الشطرنج ؛ علامة الغموضْ ومسمى يُطلقُ على الأبديَّة ؛ ليسَ علامة للحزنِ والمأساةِ ! لِمَ يُربطُ مثل ذلك الشيءِ بالبؤس والمشقَة ؟ ، معنى للفراغ والعمقْ ؛ سيدُ الآلاف ، صديقيَّ الظلامْ ! .. |
__________________ سبحان الله وبحمده
سبحان الله العظيم Sleeping Beauty | Ghasag
التعديل الأخير تم بواسطة غسَقْ | ; 03-29-2017 الساعة 10:20 PM |