مضى يومان فتحسن اليكس وتعافى جسده ‘ لكن ظل يلزم غرفته بضيق يخنق انفاسه ‘ لم يحتمل استمراره بها ‘ فحسبها كسجن يُقيّدِه ‘ لكن لم تكن له حيلة مادام والده اصر على مكوثه بالفراش الى ان يتعافى تماما.
لطالما احترم اراء ابيه ‘ وقدر حرصه عليه واهتمامه به ‘ فجعله ذلك يستشعر الدفء بوجوده ويسعد بكونه ابنا له .
ليت جميع الاباء كوالده ‘ فذلك الاب الحاقد استثار غضبه كلما تذكر خسارة ولده ويليام ‘ تمنى ربح ولده ليتخذه فرصة بأخذ الحكم من اخيه بحجة ضعف الوريث .
خابت آماله ‘ وإتقد غضبه لتذكرنجٲة اليكس من الاصابة ‘ فتعالى الحقد في عينيه ذات السواد الداكن ‘ كانتا كعتمة غرفته المظلمة الخالية من النور ‘ فالنافذة المغلقة احالت دون ذلك وردعت اشعة الشمس الغاربة عنها.
بقى هلان يجلس على احد اطقم الكراسي الفاخرة في غرفته ‘ بتفكير اسود يفوح من عينيه الخبيثتين ‘ افكار عدة لاحت في عقله ‘ فراح ينسج خيوطها بإحكام قبل الشروع في تنفيذها.
بينما ظل بشرود افكاره ‘ فجأة احس بحركة ما ‘ فجول نظره بالمكان دون ان يرى احد .
راوده شعور غريب تسبب بإخافته ‘ فنطق بجد :
ـ من هناك? .
لم يستجد شيئ بقوله ‘ وبقيت الغرفة بعتمتها المخيفة.
فنهض هلان من جلوسه قائلا بنزعاج :
ـ قلت من هناك? ... هيا اظهر نفسك الان.. .
اتاه صوت ضحك قبيح ‘ ليتبعه ظهور شخص امامه من حيث لا يدري.
إرتعب هلان قليلا بما رأه ‘فنتابه الخوف بسبب شكل من ظهر امامه ‘ بدي ذا منظر مخيف ‘ بشعر ارجواني تتطايرت خصلاته السميكة الى أعلى ‘ هذا غير عينيه ذوات الحمرة الداكنة وقد احاطتها هالة مظلمة.
استجمع هلان نفسه التي هدرها الخوف للحظة ‘ فقال بغضب بالغ :
ـ من انت ياهذا? ..بل كيف دخلت الى هنا? .
تبسم المعنى بقبح ‘ وقال بمكر :
ـ ليس المهم من اكون ..بل المهم ماتريده انت..
دهش هلان كثيرا ‘ لكن ازال عنه الدهشة بغضب علاه ‘ فقال :
ـ اتهزء بي? .. كيف تجروء .. سوف استدعي الحرس لينالوا منك .
ضحك الرجل الذي يظهر انه في الثلاثين ‘ ليجعل غيظ هلان يطمح بشدة.
ثم توقف عن ضحكه المريب ‘ ليقول بعد ان علاه الجد وصحب صوته الخشن :
ـ لا داعي لسخافة ..او ما تسميهم الحرس فأنا هنا بأمر من سيدي لأنفذ لك ماتريد ..
لم يستوعب هلان شيئا ‘ فبقي ينظر اليه بحيرة.
فأردف الرجل قوله بخباثة :
ـ اليس الحكم ماتريد? هل هذه المملكة الصغيرة تكفيك? ..ان انضممت الينا فسنحكم العالم بأسره .
زهل هلان بماسمعه ‘ فحرك شفاه ناطقا بعجز
ـ قلت العالم بأسره !! . هذا لايعقل لااصدق ذلك .
اجابه الرجل ببتسامة شريرة :
ـ بل صدق استعد لما سأقوله لك وإفهمه جيدا.. .
فسرد له ذلك الرجل الماكر ما يخطط له ‘ فغابت الشمس بعدها مودعة هذا اليوم كغيره من الايام المضت.
ليل هادي خطى خطاه البطيئه ‘ ليتبعه نهار جديد عمته اشارقة خلابة.
في هذا النهار الجميل ‘ قرر اليكس ترك غرفته اخيرا فخرج منها متجها لمكتب الحاكم ‘ فطرق بابه بهدوء.
ثم فتحه بعد سماع اذن والده بالدخول.
دخل ليري والده المندمج في عمله ‘ كم هائل من الاوراق اصتف على درج المكتب.
توقف ارياس عن الكتابة بالورق عند رؤية اليكس ‘ فقال ببعض الجد :
ـ لما خرجت ..اخبرنا الطبيب بضرورة بقائك مرتاح لمدة اسبوع على الاقل.
رد اليكس بمرح وهو متقدم نحوه:
ـ سأموت بلا شك ان بقيت سجينا اكثر من هذا ...ثم اني بخير تماما .
اقتنع ارياس برده ‘ فلم يضف اعتراض اخر فخاطبه اليكس بهدوء
ـ أرغب بالذهاب الى الجبال .
نظر اليه ارياس ببعض القلق ‘ فرد
ـ ماذا قلت? ..هل نسيت محاولة قتلك سابقا لتفكر بالخروج خارج المملكة! !.
ابتسم بهدوء مجيبا بثقة :
ـ لم انسى ...لكن لا داعي للقلق سأكون بخير..فإسمح لي بذلك .
تردد ارياس قليلا ‘ فعاد يكتب على الاوراق دون ان يعطي ابنه ردا لطلبه.
استمر لثواني عدة يتجاهل انتظاره ‘ الى ان استسلم لطيبته واذن له قائلا
ـ لك ما اردت ..لكن سيصحبك بعض الحراس .
فقال اليكس بثقة :
ـ لا داعي لهم ساتولى حماية نفسي بمفردي وايضا لا احب مرافقتهم لي حيث ذهبت .
اعترض ارياس رأيه بشدة‘ فقال:
ـ هذا لسلامتك ليس الا...وان كنت ترفض ذهابهم معك فانسى امر خروجك .
رد اليكس :
ـ ابي ارجوك لا داعي لهم ..اعدك بالحفاظ على نفسي. .
اجاب ارياس بحزم :
ـ لا يعني لا ...لن اغير قولي .
يئس اليكس منه تماما فاستدار يخطو نحو الباب بخيمة يأس احاطته .
لم يزح ارياس نظره عنه مطلقا ‘ وبغير إرادته تحركت شفتاه لتنطق :
ـ سأسمح لك بذلك .
توقف اليكس منزهلا بما سمعه وكان قد وصل الباب حينها ‘ فلتفت لوالده‘ متكلما بعدم تصديق
ـ أحقا هذا يأبي.?.
رد ارياس بجد هادئ :
ـ نعم.. لكن على ان تحافظ على نفسك .
فرح اليكس من كل قلبه ‘ فزينت الابتسامة وجهه ‘ فاستدار بكامل جسده مقابلا والده الجالس خلف درج المكتب الكبير .
ابدى له احترامه ‘ فقال بما اعتراه
ـ شكرا لك يأبي ...
خرج بعدها تاركا خلفه والده الذي ظهر عليه توتر منعه من اكمال عمله ‘ثم رفع يديه ليبصر الارتجاف الذي فيهما لم يفهم مابه فنطق بقلق
ـ مابي...لما ينتابني القلق بهذا الشكل.. ??.
اما اليكس كان قد انططى حصانه الابيض ‘فتجه به نحو الجبال الواقفة خلف المملكة الكبيرة الممتدة.
في ناحية اخرى من نواحي القصر الشاسعة ‘ نجد هلان يمشي على عجل.
دخل من احد الابواب الكبيرة ‘ ليلتقي بويليام‘ خاطبه بجد مجرد ما رأه :
ـ إستمع لما سأقوله جيدا.. .
تفاجأة ويليام بمنظره ‘ لكن لزم صمته ليعلم خبره‘ فتعالت الصدمة عليه بما اعلمه به والده‘ لم تثبت عينيه الرماديتين من ارتجافهما المصدوم ‘ نطق بثقل :
ـ مـسحيـــل...قل انـك تمزح .
اجابه هلان بعين قاسية:
ـ وهل مازحتك يوما? .
فأصاب الشلل لسان وليام ‘ تبكم تماما امامه بعجز كاد يففده عقله‘ فأتم هلان كلامه الجاد :
ـ استعد..فقد حان الوقت.
تابع اليكس مشواره الطويل ‘ فإستوقفته جمال الخضرة من حوله ‘ فحالت دون الوصول لمقصده حيث الجبال.
ترجل عن خيله وربطه تحت احدى الاشجار ‘ تجوّل قليلا هنا وهناك ‘ فوق بساط العشب الاخضر الممتد ‘ فتوزعت عليه ازهار بألوان خلابة.
تلاعبت النسائم العليلة مع شعره داكن الزرقة‘ كما نشرت عبير الزهر الفواح‘ ليعبق المكان بعطره.
جلس اليكس تحت شجرة عملاقة إمتد ظلها المتراقص مع الرياح.
لحظات فقط حتى اضحى نائما ‘ جذبه سحر المكان اليه‘ ليأخذه لعالم الاحلام .
في هذه السويعات بين تذاحم الناس في الطرق والاسواق ‘ طغى ظلام ارجاء المملكة فجأة‘ فنبلجت منه ظلال سوادء ‘ حامت هنا وهناك تفتك بالابرياء دون سابق إنذار ‘
كل من مرت به افقدته حياته, ارتفع عدد القتلة بسرعة, ومن بقي حيا تعالى صراخه, ليهرول بعيدا, رجال, نسال, وللاسف اطفال, لقيوا مصرعهم في ثواني دون ذنبهم, هذا ان كان لهم ذنب اساسا.
المملكة الأمنة فقدت بريق اسمها, عمتها ظلمة معتمة, احاطها الرعب, فتعالت الصيحات الفزعة المستغيثة.
تسارعات خطوات الجند المنتشرة هنا وهناك, كان همهم ردع ما احاط بهم من خطر فجأة دون مقدمات.
حتى ارياس اسرع في مشيه متجاوزا ابواب عدة, اراد فهم مايحدث ,رغم اعلام احد الجند له بما احاط بالمملكة من ظلامِ وسفكِ للدماء. استمر متوجها الى الخارج, وخلفه حرسبنِ يتبعانه, بدى عليهما القلق , فخاطبه احدهما:
ـ سيدي ستعرض نفسك للخطر ان غادرت القصر .
اجابه ارياس ولازال يسرع بخطواته :
ـ ما الفائدة من حياتي وشعبي يقتل ..
اتم كلماته الواثقة ليجد نفسه تجاوز بوابة مبنى القصر, نزل من الدرجات سريعا , لكنه توقف فجأة ِ مدهوشا بوقوف هلان امامه متوسطا حديقة القصر الزاهية. فمطّ هلان ابتسامة خبث على شفتيه تنذر بشر ضميره.
تدارك ارياس الامر, فعلاه هدوء يخفي تحته غضب قد اعتراه, فقال بثقة :
ـ كان علي ادراك هذا منذ البداية..فلا يوجد مجرم سواك.
دامت ابتسامته الشريرة, فظهر خلفة ظلام اشتقت منه الظلال السوداء بان عليها انها بشرية, زهل الحرسين فأصابهما الرعب, خلاف حاكمهما .
هنا استل هلان سيفه بلهفة, لطالما انتظر هذه اللحظة , فلمع نصل السيف بضوء الشمس لينعكس عليه وجه ارياس بنظرات جادة علته.
آنـّ لذلك الشاب ان يعلم بما يحدث خلفه , فجمال المكان سلبه نفسه , دام نومه في الظل الممتد , واشعة الشمس تسللت اليه من بين اوراق الشجرة كدرر تراقصت فوقه , متناغمة بإقاع النسمات الهادئة .
لكن لسبب ما فتح عينيه مستيقظا بفزع شق صدره , نهض بسرعه يجمع انفاسه الهاربة , نطق بقلق :
ابــ ـي.
ّلم يفهم سبب قلقه, بل لم يجد
حجة لقلبه النابض سريعا,رفع نظره ليرى تلبد الغيوم في السماء فإستقام متوجها الى فرسه عائدا به ادراجه.
اسرع يعدو به, فمضت لحظات حسبها ساعات, حدث نفسه القلقة :
لما يراودني هذا الشعور لما ينتابني القلق هكذا .
مسافة قليلة عبرها, لتلوح له اسوار المملكة الضخمة, فذادت من رعبه,
.... |
شاهد النيران المشتعلة, فتصاعد دخانها الاسود ملوثا زرقة السماء , اقتحم بوابة المملكة سريعا, ليذداذ هلعه بجثث الضاحيا المتمددة امامه , حسب انه في حلم, ففشل في اقناع نفسه به, فكلما تقدم اكثر كاد يفقد عقله, جثث موتى من حوله , دمـاء جرت كسيل, هذا غير السنة النار المشتعلة هنا وهناك, تحرق كل ما تصل اليه, حتي البيوت تهدم البعض منها واحترق البعض الاخر, اخيرا بعد عناء استطاع النطق بصدمة :
مستحيــل...ماالذي حـدث?.
بصدمة عالية تابع تقدمه نحو قصره بخوف سيوقف قلبه, وصله فترجل عن خيله, اسرع عابرا بوابته الكبيرة , لتتكرر عليه مشاهد الجثث السابحة بدمائها , قدماه لم تعد تحملانه, فصار يمشي بصعوبة, خطى. قليلا لببصر اباه من بعيد ممددا على الارض كغيره ببركة دم تحيطه, فركض نحوه صارخا بفزع :ابــــي.
نزل اليه بسرعة, فرفعه على يمناه, كان تاجه مرمي على الارض , فتناثرت خصل شعره الاسود الطويل عليه ونزل بعضها على وجهه, اوحى منظره بموته, ودمه النازف انسجم بلون عبأته الحمراء , الا انه لوث الزخارف الذهبية عليها , فتخنقت عيني ابنه بالدموع , وراح يهّزُ جسده مناديا له بصدمة : ابي ..اتسمعني. ارجوك ..ارجـ ـوك رد علـي.
ظل يناديه باسي وحزن , فتحركت اجفان ارياس ببطء الى ان فتح عينيه المتألمة, ليبصر بهما وجه ولده الباكي, اندفع اليكس يكلمه بمجرد ان رأى صحوه:ابي ماالذي حدث لك ..ماالذي جرى?.
فنطق ارياس بصوت خافت متعب :
ـ احمد الله ..انت بخير ..خفت الا اراك قبل رحيلي.
رفع اليكس صوته بتأثر :
لا لاتقل هذا.. ستكون بخير.
هنا حرك ارياس يده بعجز مدخلها جيبه, ليخرج منها تلك القلادة الكريستالية, فمدها لابنه قائلا بعناء:
خذها..عليك ان تنقذ العالم بها من خطر ذلك الطاغي.
امسكها اليكس رغم تعجبه, فأتم والده :
ـ عليك ان تلتقي بالبقية.
وقف للحظة, ليكمل بمشقة: ثلاثة يحملون مثلها ..ستعرف كل شيئ منهم.
صمت بألم ينتابه, وبدء يسعل, فسال الدم من فمه, ارتجفت عيون اليكس بصدمة, عجز عن فعل شيئ سوى ان نطق بحزن: ابـــي.
رفع ارياس عيونه المتعبة اليه, فقال بألم : تمنيت الا ياتي هذا اليوم.
قاطعه اليكس بأسى :
ارجـوك لا تقل ذلك.
أغمض ارياس عينيه لوهلة , ففتحهما متما بحزن كبير:
ـ قبل ثماني سنوات ..كنت مريضا بالحمى ذات يوم فظهرت هذه القلادة قربك ..انها قلادة الشجاعة..
اخفيتها عنك لانك انت صاحبها.
صمت قليلا يجمع انفاسه, فأتم : انها الان ترجع اليك .احمِ بها الاخرين.
فعاوده السعال مجددا, ليصبح اليكس كالمجنون , قال بكل خوف : ابي تماسك ارجوك ..سنجد طبيبا ما ليعالجك.
اجابه بعد توقف سعاله : لا حاجة لي به..
ثم اطال التحديق الحزبن إبنه, كأنه يودعه, فنطق بحرن : عدني ان تعيد الامجاد للمملكة من جديد .
انهمرت دموع اليكس بسرعة, لم يحتمل ما قيل, اراد النطق, لكنه عجز برؤية الابتسامة الدافئة المرسومة على وجه والده, فهمس ارياس حينها بحرن رغم ابتسامته:
ـ اهتم بنفسك ..يابني.
فراح يغمض عينيه بعدها, لتتعالى منادة اليكس له :
ـ ابـ ـي ابـ ــي...تمــاسك.
أُ غمضت عينيه تماما, فظلت ابتسامته تعبر وجهه, لم يستوعب اليكس الامر, فبات يحدق به بصدمة, بدموع منهمرة بكثرة, الى ان تدارك الحقيقة فصرخ بألم:
ابـــ ـــي.
ثم ضم جثمان ابيه اليه, وانهار باكيا عليه, كما فعلت قطرات المطر التي هبطت تدريجيا الى ان اشتدت بغذارة.
كأنها شاركت اليكس حزنه وبكائه على موت والده العطوف.
انتــــهي.... |
التعديل الأخير تم بواسطة Crystãl ; 02-18-2018 الساعة 05:48 PM |