02-04-2018, 03:25 AM
|
|
إنمَّا هِي ككوَّةٌ ضَئِيلَة، أسَترِقُ النَظَر مِنْهَا إلى الغُرفَةِ الصَغِيرَة، الغُرْفَة المُغلقَة، الشَاحِبَة والمَملُوءَة بالضَبَابْ. تترَّكزُ فِيهَا رائِحَةُ الهجْرَانْ، رائِحَةُ التَعَاسَةِ والبُؤْس. تتقَّلمُ فِيهَا أمُورُ مُعقدَة ولستْ بقَادِرَةٍ على دَرْأِهَا، رُبمَا أكُون قابَ قوسِينِ أو أدنَى مِن الترحَالِ الصَامِتْ. تتسَاءُل نفْسِي أحيانًا، لِمَا لا أرَى مَا فِيهَا، لمَا هِي عوِيصةٌ جدًا على الفهْمِ والتَركِيز؟ لمَا لا أنظرُ إليهَا فأرَى ملامِحًا واضِحَة، لمَا عليهَا أنْ تكُونَ مُعَقدةً كمَتَاهَةٍ عقْليَة؟ لمَا عليّ الفِرارُ لفحِيحِ صوتٍ غَادِر فِي كُل مرَّة؟ من تكُون تِلكَ الغُرفَة ولمَا أنَا مُنْشِأتُهَا؟
لمْ أرَى المُسْتقبَل واضِحًا قَبْلًا، ولمْ أكفّ عنْ لُعبَةِ الغُميضَةِ التِي ألعُبهَا مع كياناتِ الغُرفَة، طفقتُ روحةً ورجعةً أتملَّصُ مِنَ الوَظائِف نَاظِرةً لتِلكَ الكوّة. إنهَّا عتِيقَةٌ جدًا، كقبَسٍ مِن مارِجِ التَارِيخْ، شيءٌ مشْؤومٌ حولهَا، لا استَطِيعُ التغَاضِي عنْهَا. سحقًا كانْ عليّ الإسْراعُ والهَربْ، الآنْ لا مجَال لتجّنُبِ العِقَابْ. آه! إنِي لخَرقَاءٌ حقًا.
أتَتِ الأصَواتُ الغَادِرَة، طَارِدةً إيايَّ مِنْ قُرْبِ الكوَّة، مُصنَّعةً بإتْقَانْ، مُصوَبةٌ تمَامًا قِبَلِي أنَا، هذِهِ المرَّة أنَا لمْ أستَطِعْ الهَرَبْ، إنِّي لمْ أعدْ أخَافُ النَظَر إليهَا، لمْ أعُدْ أخشَى سمَاعهَا، لمْ أُرِدْ سوى حَلِ لُغزِهَا، لمَا؟ لما تتَركَّزُ فِي عقلِي أنَا؟ لمَا مُستَقرُهَا مكانٌ لا أصِلهُ إلا نائِمَةٍ أو خَائفَة؟ هِي ليستْ ملتجَئًا، ليسَتْ مكانًا يُخفِيني عَنِ الُرعْبِ خلفَ الأسْوارْ. هي شيءٌ ما تكوَّنَ بفعلٍ ارتطامٍ هائِل، لصَدمَةٍ مُدويَّة، جعَلتْ مِنهَا شِرخًا، ثمّ شقًا فِي جِدَارٍ غَيرِ مَرئِي، فِي الفضَاءِ أمَامِي هُنا.
خَامَرَنِي هاجِسٌ أسْودْ، رُؤيةٌ ظلمَاء، بَادَر الشُؤمُ مُنتَصِبًا كقِطةٍ غَاضِبَة. تراوِدُنِي الكَلِمَاتُ الصمّاءْ، بتخَاطُرٍ عجِيبْ، تَتراوَدُ إلى مسَامِعِي التُرهّاتْ، أقَوالٌ مِنَ الشياطِينْ. لمْ أرْتَدِي تمِيمَة الحِمَايَة اليَومْ، ليكُن الربُ برِفْقَتِي. تجلَّى البَرد، برداءٍ خَفِي، مُحولًا جَسَدِي إلى مدْفأةٍ حيّة تُحاوِل حِمايَتِي مِن قرصَتِه. تلاشَتْ الأصَواتْ، عمَّ الصَمتُ لحَظاتٍ يتِيمَة. مِن الكوَّة، سمِعْتُ أصواتَ حركَةٍ ضعِيفَة، سُرعَانَ ما بَاتَتْ أقَوى، حركاتٌ مجنُونَة، كجَسَدٍ يرتَطِمُ بالجِدَارِ بلا هوادَة.
بدأتُ أخَافْ، والكوَّةُ بدورِهَا تَتَقدَّمُ فِي لعِبِهَا، إنَّها تصْبِحُ أصْعَب وأصعَبْ مَعَ الوقْتْ. تمَالْكْتُ نَفْسِي، فِي صبَاحِ الغَدْ سأكُمِلُ التَاسِعَة ولَنْ أعُودَ طِفْلةً صغِيرةً بعْدَ اليَومْ. عليَّ أنْ أصْبُرَ أكْثَر، ترَاجَعتُ بِبُطءٍ إلى الخَلفْ، ريثمَا تَتشوَّهُ مَعالمُ الكوَّةِ أمَامِي، مُتمِددةً ثمُ مُنكَمِشَة بالتَتَابُع. إنهَا غَاضِبةٌ مِني جدًا، لأنِي لمْ أهْرُبُ حِينمَا أتَتْنِي الأصَواتْ، عليَّ الهَربْ.
فرَرتْ بجِلْدِي، مُبْتَعِدةً أقْصَى ما أمْكنَنِي عَنهَا، بعْدَ دقَائِقَ مِنَ الركْضِ وجَدتُ نَفْسِي فِي فِراشِي مُجددًا، لأتسَاءل بغُربَة، أكُل ما يحدثُ مَعِي يوميًا مُجردُ حُلم؟ أم واقعٌ يشْغلهُ التغيُّر الزمَكانِي؟ مرَّ اليومُ تاليًا ولا أزالُ غائِبَة الوعِي عنِ الحَاضِرينْ، كلُهُم يحتَفِلُون بِي، إلا أنِّي كُنتُ بعيدةً عنهمْ، بعِيدةً جدًا، فِي أحوالٍ لا يعْلمُهَا إلا أنَا والرب.
عُدتْ فِي تِلكَ الليلَة، إلى الكوَّة، وقدْ كَانَتْ كمَا هِي تمَامًا، مُنتظِرةً إيايَّ بِصَمْت. - مِن مُذكراتِ فاليري، التاسعُ والعشرون مِن نوفمبر. |
|