مشت ماري على الأرضية الخشبية للبيت إلى أن وقفت أمام بابٍ أبيض ففتحته وأشارت إلى ميو بأن تأتي
فعلت ميو كما طُلب منها ووقفت بجانب ماري فاحتضنت كتفها وأشارت إلى داخل الغرفة
" هذه الفتاة كانت بجانبه "
نظرت ميو حيث أشارت ماري لتشعّ أمام عينيها لوحة كبيرة لشابة شقراء الشعرِّ بدا من ملامحها أنها في العشرين من عمرها
ترتدي فستاناً أصفر اللون يصل إلى ركبتيها القمحيتين .
تأملت ميو ملامحها الجميلة وتعبيرها المفعم بالسعادة ثم همست بابتسامة " إنّها جميلة جداً "
ثم استذكرت أمراً فسألت " لكن...ما علاقتها بمارغين؟ "
أجابتها ماري و عيناها تأبى أن تفارق لوحة تلك الشابّة " إنّها أختي ماريا... وهي أيضاً زوجة عمّه الأصغر "
سألت ميو محاولة أن تتأكد " عمُّ مارغين؟ " قالت ماري بعطف " أجل يا صغيرتي " أومأت ميو برأسها بصمت
بعدها قالت ميو بسعادة وهي تنظر إلى ابتسامة " تبدو لطيفةً جداً " ثم عبست وقالت بغضب " على عكس مارغين المخيف "
ضحكت ماري بصوتٍ عالٍ قائلة " أنت مضحكة ميو " احمرّت وجنتا ميو و أنكست رأسها بخجلٍ
ثم رفعته حالما شعرت بضحكات ماري تتخافت لتهمس بحزن " لقد كانت لطيفة جداً " ثم أشاحت برأسها مكملة " لكنها رحلت..إلى الأبد "
شعرت ميو بالحزن اتجاهها فأمسكت بيديها محاولة التخفيف عنها
نظرت لها ماري مبتسمة بوهن وقالت بحسرة والدموع توشك على السقوط من عينيها " لقد ماتت قبل عشر سنين عندما كان مارغين
في العاشرة من عمره بسبب حريقٍ أصاب بيتها "
لم تقل ميو شيئاً وبقيت صامتة تنظر للأرض ويداها متمسكتان بماري
بقيا صامتتين لفترة إلى أن حاولت ماري تغيير الأجواء قائلة بمرح وهي تمسح عينيها " لكن أتعلمين؟.. لقد تركت ماريا كنزاً مهماً له "
رفعت ميو نظرها نحو ماري وسألت " ما هو؟ " ابتسمت ماري بسعادة قائلة " إنّه ـــــ "
كانت على وشك قولها لولا أنّها سمعت صوت رنين هاتفها في المطبخ فقالت " حسناً لننهي حديثنا هنا اليوم "
ثم قالت بابتسامة وهي تأخذ ميو نحو سريرها الأبيض ذو الغطاء الأصفر " متأكدة أنّك متعبة الآن أليس كذلك ؟ "
نظرت نحو النافذة لترى غطاء الليل الأسود قد فرش على السماء فقالت " إنّه الليل الآن .. ما رأيك أن تنامي؟ "
أجابتها ميو وعيناها على وشك أن تغلق من شدة التعب " معك حق سأنام الآن شكراً لكِ "
ودّعتها ماري وذهبت إلى حيث يرن هاتفها بينما أغلقت ميو عينيها معلنة نهاية يومها الغريب ..
" من يتصل في مثل هذا الوقت من الليل؟ " قال ماري مستغربة ووضعت هاتفها بعد أن شغلته على أذنيها لكنها لم تسمع شيئاً
قالت ماري بضجر " من يكلمني؟ " فجأة سمعت صوتاً خلفها أفزعها وجعلها تسقط هاتفا أرضاً " إنّه أنا "
التفتت حيث مصدر الصوت وكانت على وشك الصراخ لولا إدراكها أن الشخص الذي أمامها هو مارغين
وضعت يدها على قلبها الفزع تحاول تهدئته بنفسٍ عميق وظلّت على هذا الوضع لدقائق
بينما يحدق بها أصفر العينين بملل قائلاً " لما صرختي هكذا أنتي لستِ طفلة؟ "
نظرت له بغضب ثم قالت " هذا خطأك لأنك ظهرت فجأة و أيضاً أنا لم أرَ سوى عينيك وسط هذه الظلمة فكيف لا أخاف؟ "
ظلت تحدق به تنتظر منه إجابةً على سؤالها لكنه لم يقل شيئاً واكتفى بالنظر نحوها بصمت
أخرجت ماري تنهيدة صغيرة واضعةً كفّها على جبينها قائلةً بخيبة " الحديث معك لن يجدي نفعاً "
ثم رفعت رأسها وسألته مستفسرة " إذاً.. لماذا اتصلت بي وأنت هنا ؟ "
أجابها بهدوء بعد أن فتح ضوء المطبخ وبانت ملامحه " لقد أخبرتِها بالكثير "
قالت ماري بتفاجئ " إذاً لقد سمعت محادثتنا .. صحيح؟ "
أجابها وهو يتكأ على حافة مدخل المطبخ " يمكنكِ قول هذا "
شعرت ماري بالغضب من بروده وكانت على وشك مجادلته ، لكنها تذكرت أمراً فتبسّمت وبدأت بالضحك بسخرية
نظر لها مارغين بضجر قائلاً " لماذا هذه الابتسامة المستهزئة على محياكِ؟ "
أجابته ماري وهي تضحك محاولةً استفزازه " أتعلم؟..لقد قالت عنك أنّك مخيف "
غضب قليلاً من طريقة سخريتها لكنه أجابها بكلِّ هدوءٍ وبرود " وماذا في ذلك؟ "
يئست ماري من محاولة استفزاز مارغين فقالت بضجر " أنت شخصٌ ممل "
صمتت قليلاً ثم سألته " ألم يحن الوقت لتخبرها أنت إذاً؟ "
أجابها بهدوء بعد تفكيرٍ عميق " أليس هذا مبكراً جداً؟ "
أجابته ماري " مارغين إنّها ليست صغيرة بعد الآن .. إنّها في الخامسة عشرة من عمرها كما أنّها ذكية و ستفهم ما تقول "
فكّر فيما قالته قليلاً ثم أجاب " إذا كان هذا ما تظنين فلا بأس "
فرحت ماري وقالت " هذا رائع " ثم سألته " هل أنت جائع؟ "
هزَّ رأسه نافياً وأجاب " كلا أنا متعب جداً اليوم "
سألته ماري " إذاً فلقد انتهت المهمة "
أجابها بهدوء " أجل والآن تصبحين على خير " لوّحت ماري مودعة وهي تقول " تصبح على خير "
توجّه مارغين نحو غرفته المجاورة لغرفة ميو وفتح بابها بهدوءٍ ودخل إليها
جلس على سريره ثم نظر من النافذة فعبس حال رؤيته لسواد الليل
الليل رغم أنّه يرتدي الأسود دائماً إلا أنّه لا يحبه فهو يذكّره بما لايحبه
صداع نزغ برأسه ليوقظه من شروده في النافذة ويحاول النوم مبعداً تلك الأفكار السوداويّة من رأسه ...
بقي لمدة طويلة يحدق بسعادة إلى تلك المرأة التي تحمل طفلتها بيديها وتلاعبها بحنان
ظل يراقبهما لفترة حتى غلبه النعاس دون أن يدرك ذلك
فجأة استيقظ عندما شعر بهدوءٍ غريبٍ يسكن المكان
فزع وقام مكانه فلم يجد أحد حوله فكل ما وجده هو بقايا للرماد والفحم تملئ المكان فنادى صارخاً " عمتي ماريا!! ... أين أنت؟! ..عمتييييي "
فتح عيناه بسرعة من شدّة الخوف ليلمح سقف غرفته البيضاء الذي ضربته الشمس ببعض ضوئها
ويدرك أن ما شاهده للتو لم يكن سوى الكابوس الذي يتكرر عليه كل ليلة منذ ذلك اليوم الأسود
قال بعد أن أطلق تنهيدة ثقيلة واضعاً ذراعه على عينيه يغطيهما " ذلك الكابوس مجدداً "
جلس باعتدال على سريره ونظر إلى النافذة التي بجانب سريره
فرأى الشمس بازغةً في الأفق والغيوم التي كانت ملبدة في الأمس لم يعد لها وجود
لوهلة شعر بالهدوء والسكينة حال رؤيته لهذا المنظر ومعه صوت العصافير المزقزقة
ثم لمح فتحة الباب فرأى ماري خارجة من المنزل و ميو تودعها ثم عادت إلى غرفتها
مشى بخطى هادئة ليخرج من غرفته ثم نظر من حافة الباب
فوجد ميو جالسةً لوحدها ويبدو أنَّ تفكيرها العميق قد شغلها عن ملاحظة أنّه يقف عند الباب
حدّق بها طويلاً ثم اتّكأ على حافة بابها عاقداً يديه إلى صدره و سأل بهدوء " ماذا تفعلين ميو؟ "
قفز قلب ميو فزعاً و أجفل جسدها الناعم لتلتفت بسرعة إليه بعينين جاحظتين
قالت بارتباك بعد أن رأت ليليّ الشعر والملبس " أ..أ.أنا كنت " لكن لسانها انعقد فلم تستطع الكلام
أمال رأسه قليلاً وسأل مستغرباً " ما بك؟.. لما أنت خائفة؟ " تمتمت ميو مُشيحةً رأسها " ومن لا يخاف وأنت بقربه "
سألها وعلى ثغره ابتسامة لا تكاد تظهر حين قارن ما قالته الآن بالأمس " ألهذه الدرجة أنا مخيف ؟ "
صرخت ميو في سرّها بفزع كالمجرم الذي كُشفت جريمته " تباً كيف سمعني؟ "
" فكّرت ميو بسرعةٍ وارتباك بما سترد عليه لكن حبل أفكارها انقطع حينما قال مارغين بهدوء " ميو "
" فأجابته بسرعة " نعم " فأكمل " أريد الحديث معك تعالي معي "
أومأت برأسها وتبعته وهي مرتبكة تفكر بما سيقوله أو يفعله لها
وصلا لغرفة المعيشة فجلس هو وأشار لميو بأن تجلس على الأريكة التي أمامه
ففعلت ثم ابتدأ الحديث قائلاً " سأخبرك لماذا أحضرتك إلى هنا .. حسناً؟ "
تأهبت ميو وجلست باعتدال قائلة " حسناً "
أكمل هو بعد أن تنهد استعداداً لما سيقول " عندما كان عمري سنتين توفيت والدتي وقامت برعايتي زوجة عمي
ماريا لأن والدي لم يكن مهتماً برعايتي.. بعدها عندما أصبحت بعمر الخامسة أنجبت طفلة ... هذه الطفلة هي أنت ميو "
" تفاجأت ميو بهذا الأمر لكنها لم تقل شيئاً إنما شعرت ببعض السعادة أن تلك المرأة الجميلة في الصورة هي والدتها
لكنها فجأة ووسط شعورها بالسعادة استدركت أن أسود الشعر الذي يجلس أمامها هو ابن عمها
أكمل مارغين حديثه " أنت كنت كالأخت لي كما كانت عمتي ماريا كأمي .. كنت أعيش معكم بسعادة إلى أن جاء ذلك اليوم "
منذ نهاية تلك الجملة بدأ يتخلل صوته حزنٌ عميق وأكمل حديثه منكساً رأسه
" كان يوماً غطت سمائه غيومٌ رماديةٌ وسوداء .. كنت خارجاً للعب مع أصدقائي في ملعبٍ بعيد عن المنزل
كنتِ الخامسة من عمرك وتركتكم في المنزل وعدت لوقتٍ متأخر رغم أنّي كان يجب أن أعود مبكراً ..
عندما عدت وجدت المنزل محترقاً ولم يبقى منه شيء سوا الرماد والفحم بحثت عنكم فلم أجدكم
حينها شعرت أنني السبب في هذا "
ثم رفع رأسه ونظر لها مباشرةً بعينيه الصفراء " لابد أنّك تتساءلين لما أنا ارتدي الأسود دائماً"
ثم قال بابتسامة جانبية يسخر من نفسه " يمكنك أن تقولي أنني أعاقب نفسي بذلك ولكن لا جدوى من ذلك حقاً "
شعرت ميو بالحزن لسماعها ذلك وبالأسف على حال مارغين وأنّه يشعر بالذنب لأنه لم يكن موجوداً
فقالت تحاول الترويح عنه " لكني هنا أليس كذلك؟ " ابتسم ابتسامة جانبية يملؤها الحزن وبقي صامتاً
لتسأله ميو " لكن.. كيف عرفت انني على قيد الحياة ؟ " بدأ الغضب يكسو ملامحه حال سماعها هذا السؤال
وأجاب على سؤالها وقد بان الحقد والبغض من صوته " اكتشفت أن السبب وراء ذلك الحريق كان أبي ..
كان يخشى كثيراً على أملاكه من أن يأخذها عمي أو يحاول الاستيلاء عليها عن طريقي فقام بالتخلص منكم عندما لم أكن موجوداً "
ثم أكمل بأسف وقد شبك قبضتيه بقوة " أنا حقاً آسفٌ بشأن ذلك ميو .. كل هذا كان خطئي .. بسببي فقدت عائلتك "
هزّت ميو برأسها نافية وأجابته معترضة " هذا ليس صحيحاً أنا لم أفقد عائلتي .. أنت مازلت معي وخالتي ماري أيضاً "
قالت جملتها الأخيرة مبتسمة فبادلها هو ابتسامته الهادئة وأكمل " علمت لاحقاً أنّك مازلتِ على قيد الحياة وأنّك تعيشين في ميتم سيلان ..
يبدو أن احدهم رأى الحريق ووجدك ثم أخذك إلى ذلك الميتم .. أنا ممتن لذلك الشخص كثيراً"
شعرت ميو بالراحة حينما رأت مارغين يبتسم و لكنّها أمراً طرأ إلى ذهنها فسألت " ماذا عن عمي ألم يعرف بأني ما زلت على قيد الحياة؟ "
أجابها مارغين بثقة " لا تقلقي لقد تدبرت هذا الأمر صحيحٌ أنّه عرف أنّك على قيد الحياة وظل يبحث
عنك لكني قلت له أنّي وجدتك وقد أرشدته إلى مكانٍ كان قد احترق لتوّه فظنَّ أنّك قد متِّ "
أبدت ميو قلقاً بسيطاً بان على عينيها العسليتين لاحظه مارغين فقال مطمئناً " أنا وماري هنا معك ميو .. أنا سأحميكِ ولن أخسركِ مرةً أخرى "
ابتسمت سعيدةً بما سمعت و ظلّا يحدقان ببعضهما بصمتٍ قطعته ميو سائلة بابتسامة " إلى متى ستبقى بملبسك الأسود؟ "
ابتسم لسؤالها و سألها ممازحاً " لما ألا يناسبني؟ "
أجابته بسرعة " كلا إنه مناسبٌ لكَ لكن..." بدا عليها التردد في كلامها فسألها مارغين " لكن ماذا؟ "
أجابته بحزن " أنت قلت أنّك تعاقب نفسك بهذا .. وأنا لا أريد ذلك ... لا أريد أن تبقى مشاعرك في حِدادٍ طويل "
فهم مارغين ما تقصده ميو بكلامها الحزين .. هي تريد أن تخلصه من الشعور بالذنب
على ما حصل لها ولوالديها فقال لها " حسناً ميو .. لك ما تريدين "
تهلل وجه ميو فرحاً وقالت له " شكراً لك " فجأة احتُضنت ميو من الخلف وقال الفاعل ضاحكاً " أأنتي متأكدة من البقاء مع هذا الفتى الممل "
التفتت لترى أنّها ماري هي من تحضنها والتي حال رؤيتها من قبل مارغين قطب حاجبه وشعر بالانزعاج
رفعت ماري نظرها نحوه وسألته " لما أنت منزعج هل أنا مخطئة؟ " لم يقل مارغين شيئاً واكتفى بالصمت مع نظراته الغاضبة المخيفة
عاودت ماري النظر إلى ميو سألتها " ألست محقة ميو؟ " ارتبكت ميو في البداية ولم تعرف بما تجيب
لكنها أجابت لاحقاً " قد يبدو لك كذلك من النظرة الأولى لكنه في الحقيقة شخصٌ لطيف " ثم ابتسمت لها وقالت " إنّه أخي بعد كلِّ شيء "
تفاجئ مارغين قليلاً بما قالت لكنه لم يعلّق على شيء واكتفى بابتسامة رضا
عبست ماري وقالت بضجر " يا إلهي لقد أصبح لي عدوان وكنت أريد أن أضم ميو إلى جانبي "
ضحكت ميو على كلامها أما مارغين فكان يفكر " أنا لن أضيع هذا الكنز مرّةً أخرى " ...
النهايه...
لا أحد يرد..