وفي شعبان تلك السنة أمر الله -سبحانه تعالى-
بتحويل القبلة من المسجد الأقصى ببيت المقدس إلى المسجد الحرام، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، فلمَّا هاجر إلى المدينة لم يمكنه أن يجمع بينهما، فصلَّى تجاه بيت المقدس أول مقدمه المدينة ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، مما يقتضي أن يكون ذلك في رجب من السنة الثانية [السيرة النبوية لابن هشام]. قال ابن إسحاق: «صُرفَت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرًا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة» [البداية والنهاية]
ويحكي لنا عن واقعة تحويل القبلة الصحابي الجليل ابن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فيقول: «بَيْنَما النّاسُ يُصَلُّون الصُّبْحَ في مَسْجِدِ قُباءٍ، إِذْ جاءَ جاءٍ فَقالَ: أَنْزَلَ الله عَلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم قُرْآنًا أَنْ يَستَقْبِلَ الْكَعْبَةَ؛ فاسْتَقْبِلُوها؛ فَتَوَجَّهُوا إلى الْكَعْبَةِ» (رواه البخاري).
وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يُصلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَت: (قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ) [البقرة: 144] فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بني سَلِمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ في صَلاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنادَى: أَلا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمالُوا كَما هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ» (رواه مسلم).
ونلحظ من واقعة تحويل القبلة مدى امتثال رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام لأمر الله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يولِّ وجهه شطر المسجد الحرام -رغم رغبته وميله الشديد لذلك- إلا بعد أن أَذِنَ الله له، وكذلك الصحابة الكرام، ما أن أتاهم نبأ تحويل القبلة وهم في الصلاة حتى حوَّلُوا وجوههم وقلوبهم نحو المسجد الحرام طاعةً وإذعانًا لأمر الله قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ) [الأحزاب: 36].