تراك استمتعت الى حكايه الناي وانين اغترابه، انه يشكو الم الفراق، يقول:
" انني مذ قطعت من منبت الغاب لم ينطفي بي هذا النواح، لذا ترى الناس رجالا ونساء يبكون لبكائي. لكل انسان اقام بعيدا عن اصله، يضل يبحث عن زمان وصله، ان صوت الناي نار لا هواء، فلا كان من لم تضطرم في قلبه هذه النار"
كان يحب الجاذبيه الآسره للبدايات، شرارة النظرة الاولى، شهقة الانخطاف الاول.
كان يحب الوقوع في الحب.
ماكان مولعا بصيد النساء، انما برشف رحيق الحياة، وبذلك الفضول الجارف الذي يسبق الحب.
حدث اكثر من مره بعد ذلك ، ان عاود مشاهدة تلك المقابه، التي يحتفظ بها في مكتبه، عله يفك شيفرة تلك الفتاة، او سر تعلقه بها.
ليس جماها ما ياسره، هي ليست جميلة حد فقدان رجل مثله صوابه. ولا هي انيقة اناقة يمكن ان تنازل بها النساء من حوله. لعلها ما كانت لتستوقف نظره لو صادفها. لكن كلماتها صادفت اذنه، واوقعته في فتنة انوثة ما خبر من قبل بهاء عنفوانها.
افرغ غليونه وراح يحشوه بتان، كمان يفعل عادة عندما تاخذه افكاره.
هو لا يفكر اثناء التدخين، بل اثناء اعداد غليونه وحشوه. هكذا يعد لمشاريعه ولصفقاته. وهكذا يدير معركه قبل ان يخوضها، لاعتقاده ان الاستعداد لفوز اولى متع الفائز.
ان تنتظر امراة بالذات، خارج الزمن وخارج الحسابات، ان تنتظرها كما لو ان لا امراه سواها على الارض يا للجهاد .. يا للنصر العظيم حين تفوز بها.
ثلاث اشهر وهو يتقدم نحوها كما على رقعة شطرنج. نصلها باقات وروده في اي مسرح تغني عليه، واي برنامج تطل فيه. كقناص يعرف كل شيء عن طريدته، كان ملما باخبارها، بينما لا تعرف هي شيئا عنه.
يعنيه فضولها، ترقبها، حيرتها. يود ان يدخ حياتها علامة استفهام جميله، تغدو مع الوقت علامة تعجب .. فعلامة اعجاب . هكذا تكتب قصص الحب الكبيرة كل ما تاتي على عجل يمضي سريعا، وكل ما نكتسبه بسرعه تخسره بسهوله. وهو بلغ من الحكمة عمرا، اصبحت فيه متعة الطريق تفوق متعة الوصول، وانتضار الاشياء اكثر شهوة من زهو امتلاكها.
كتب لها على البطاقة الثانيه " املك كل الوقت"
وعلى الثالثة "احتفي بورود الانتضار"
لعلها ادركت ان عليها ان تنتظر اكثر، قبل ان تعرف من يقف وراء تلك الباقة نفسها، بكلمات مختلفة كل مرة. كلمات مواربه البوح تحفظ له مسافة ان يضل المشتهي.
الحب هو ذكاء المسافه. لا تقترب كثيرا فتلغي اللهفه، ولا تبتعد طويلا فتنسى. الا تضع حطبك دفعة واحدة في موقد من تحب. ان تبقيه مشتعلا بتحريك الحطب ليس اكثر، دون ان يلمح الاخر يدك المحركه المشاعره ومسار قدره. اوه .. كم يتقن لعبة نقل النار بين الحطب، وانقاذ الشعله في اللحضة الاخيره قبل ان ينطفئ الجمر بقليل.
ثلاث رسائل كافية لاشعال فتيلها. سيترك لها رقم هاتفه مع الباقة القادمة، لكنه حتما لن يترك اسمه. سيطيل الغموض ما استطاع ليشعل شغفها بما لا تعرف عنه. الغموض مصمم ازياء انتقائي، لا يضع توقيعه الا عى تفاصيل الكبار.
لم يتجاوز كلماته لها الثلاثه في كل بطاقه. كلامه اغلى من ان يملأ بطاقات ترسل في المناسبات، وهي لا تعرف هذا بعد، ولا ان اللغة هي بعض ما اوقعه في شراكها. معها يتوقع جولات لغويه على علو شاهق. هذه المتعة بالذات هي التي يفتقدها مع سواها، يريد شريكا لجولة كرة طاولة، تتطاير فيها الجمل فيهب لالتقاطها والرد عليها. النساء من حوله لا جولات لهن خارج السرير.
غادر البيت مشيا نحو غابة بولونيا. اعتاد ان يمشي طويلا في نهاية اليوم اثناء مواصلته سيره في افكاره، تارة نحو الذكريات .. واخرى صوب المستقبل.
هو دائما على اهبة مشروع، او خارج لتوه من ذكرى. يمارس رياضة المشي السريع في زمن مفتوح بين طفولته العادية في بيروت ونجاحاته الخارقة في كبرى عواصم اعالم.
انجازه الاكبر ماكان في بلوغه تلك المكاسب، بل في الطريق التي سلكها لبلوغها.
كان مولعا بالاقدار الكبيره. تبهره السير الذاتيه اردالات صنعو اقدراهم. وكان صانعا ماهرا للاحلام الخرافيه. يكفي ان يحلم لتصادق الحياة على احلامه. قد يبدو في لحضات نادرة متواضعا لكن احلامه لا تعرف التواضع. يمشي .. واثناء ذلك يحلم. يتامل الاشجار المتعانقه عى طريقه باشكالها المختلفه، والبط متزلجا باناقة على الضفاف الهادئة لبحيرة بولونيا.
كثيرا ما تمنى لو كان شاعرا او كاتبا ليصف انبهاره بهذا المكان الذي يتردد عليه منذ اكثر من عشر سنين. لا يدري ان كانت تنقصه الموهبه او الشجاعه ليصبح كاتبا، فهو ليس خريج الجامعات بل خريج الحياه. لذا لم ياخذ الشهادات يوما ماخذ الجد.
ماعاد الامر ليزعجه. حلت عقدته مذ تفوق بحكمته وذكائه على طاقم المستشارين والمساعدين العاملين في شركاته. حدث اكثر من مرة ان انقذ اعماله من الافلاس بمهاراته لا بشهاداتهم.
ما يحسد البعض عليه حقا هو الثقافة. لذا، كان ينهل منها بشغف وفضول معرفي، ذاهبا مع العمر نحو ارقاها واعمقها، بعدما لم يعد يعنيه ابهار احد .. بل امتاع نفسه.
انقضت ثلاث اسابيع قبل ان تاتي اول مناسبه. حفل علم انها ستشارك فيه مع مجموعه من المطربين في سورية. هذه المره سيلقي لموقدها بما سيشعلها من حطب لايام، لكنه لم=ن يستعمل سوى عمود ثقاب واحد.
كتب على بطاقة ارقام هاتفه فحسب، ووضعها في الظرف الصغير المرفق بالباقه نفسها التي اعتاد ان يرسلها اليها. طلب ارسال الباقه مع سائق الى الشام. كان عليه ان يقصد بنفسه بائع الورود، وان يتابع كل التفاصيل. لو كان في باريس لكلف سكرتيرته الفرنسيه بذلك، في بيروت لا يمكن ان ياتمن احدا على سر. هذه مدينة كل واحد فيها يدير وكالة انباء.
ثلاث ساعات وتصلها البطاقه، تماما بتوقيت ختام الحفل. انها الساعات الاكثر توترا وجمالا في اية قصة حب. تلك التي تسبق الاعلان ببدء حالة الجنون العشقي. هذه المرة رفع سقف فضولها العاطفي بثمانية ارقام ليست مرفقة باسم. كان لا يتوقف عن استراق النظر الى ساعته. ابتداءا من الساعه العاشرة، يمكن للهاتف في اية لحضة ان يدق .. وتكون هي على الخط. ففي كل امرأة قطة يقتلها الفضول.
اطال البقاء في المكتب، حتى لا يفاجئه الهاتف وهو مع زوجته.
ثم عند منتصف الليل قرر العودة الى البيت، لكنه وضع هاتفه على الصامت كي ياخذ علما باتصالها. تفقد هاتفه قبل الخلود الى النوم، دون جدوى. توقع ان يشهق قلبها حين ترى رقمه، فتسارع الى طلبه. لكنها لم تفعل ولم يجد عذرا لعدم اتصالها، فقد تاكد من وصول السائق.
شعر انها هزمته حتى قبل بدء الجولة. كان نومه مضطربا، نام عاريا من صوتها.
انها الحياة تتحين فرصة ادهاشك.
لكان هذا الرجل قرينها، ايكون جنا كي يعرف عنوان كل مكان تظهر فيه .. اولعله مجنون؟ لكن لغة ارقى كم ان تشي بذلك.
احاسيس جارفة ومتناقضة انتابتها ، وهي ترى رقمه المكتوب، دون اية كمة مرفقة به.
ترددت في طلبه مساءا. لا يليق بفتاة ان تتصل ليلا برجل غريب. لكنها كانت على عجل ان ياتي الصباح. قلبها يرى في ارقام هاتفه اشارة مشفرة للحب يستعجل فكها. قلبها يخفق، قلبها احمق يقول "قومي اطلبيه" وعقلها احمق اخر يردد " عيب .. انتظري غدا ".
قاومت الارق، ثم صباحا، قاومت لهفتها وفضولها، في انتضار الساعه التاسعة. الوقت الذي بدا لها مناسبا للاتصال.
كان رقمها من لبنان، ولا فرق في التوقيت اذا. طلبته دون ان تدري كم بامكان رقم هاتفي ان يعبث باقدارنا.
ارتجف صوتها كما يوم جربته لاول مرة قبل ان تغني:
- الو ..
رد صوت رجل على الطرف الاخر:
- اهلا.
ساد بينهما للحضات صمت البدايات. قال فاتحا باب الكلام:
- سعيد بالتحدث اليك ..
وجد نفسه يواصل:
- كنت استعجل هذه الحضه.
ردت بنبرة لا تخلو من الدعابة في اشارة اى بطاقات سابقة:
- ظننتك تملك كل الوقت.
- ان املك الوقت لا يعني اني املك الصبر..
علقت بالدعابه نفسها:
- اما انا فطوعتني الحياة .. لا اكثر صبرا من الاسود.
اسقط بيده. ما اعتقد ان الجولة معها ستبدا من هذا العلو الشاهق. اما هي فما ظنت انها ستخفي ارتباكها بالمزاح. ليس هذا ما تمنت ان تقوله.
قالت مستدركة
- شكرا عى الورد .. استعدتني التفاتتك كثيرا.
اجاب:
- مذ اول برنامج شاهدتك فيه وانا اود ان ابدي لك اعجابي.
سالته:
- اي برنامج تعني ؟ تبد متابعا جيدا للبرامج التلفزيونية.
في ظروف اخرى كان سيكون له رد فعل اخر، كنه وجد لها عذرا. هي لا تعرف من يكون، تم لقد وصلتها منه ورود في اكثر من ظهور تلفزيوني، وربما اعتقدت ان لا شغل له سوى الجلوس امام التلفزيون.
رد:
- كنت اقصد المقابلة التي اجريتها في نهاية ديسمبر .. احببت حديثك.
علقت ممازحة:
- ظننتك احببت حدادي حين كتبت لي "الاسود يليق بك".
- ربما كان علي ان اقول انك تليقين به .. الاسود يا سيدتي يختار سادته.
لم تجد ما ترد به. هكذا هم المشارقة، لا يمكن لاحد ان يجاريهم في انتقاء كلماتهم عند الحديث مع امرأة. ماكان من الاسق ان تساله عن جنسيته. طرحت سؤالها بصيغة اخرى:
- هل تقيم في بيروت؟
- نعم.
- انت محظوظ .. احب بيروت كثيرا.
رد:
- وبيروت تحبك .. لقد خصص لك اعلامها استقبالا جميلا.
- صحيح .. انا مدينة لها بانطلاقتي.
علق:
- لعلك يوما تكونين مدينة لها بلقائي.
تركت كلماته بينهما شيئا من الصمت. شعر ان عليه الا يطيل المكالمة الاولى. قال منهيا الاتصال:
- رقمي معك .. يسعدني سماعك.
باغتها، لم يترك لها فرصة ان تضيف شيئا. غادرها في عز فضولها.
اغلق الجولة على جملة " يسعدني سماعك".
احتفظ لنفسه بما تمنى لو قاله لها " اتعبتني قبل ان اسمع بك.. وساتعب لانني لا اريد ان اسمع سواك".
بقي على جوع اليها. لكنه ابقاها ضمأى. في هذه المرحلة يحتاج الحب الى ان يقتات من تعطشها لمعرفة المزيد عنه، والا انطفأ زهج اشعله بينهما، هذا اقصى حد عرفه للصبر النسائي .. الا اذا زايدت عليه مكابرة، وصدق قولها الا اطول صبرا من الاسود.
بعد انقضاء ثلاثة ايام دون ان ياتيه اتصال منها، بدأ يشك في نظرياته. في جميع الحالات، هو لن يطلبها، خاصة انها اتصلت به من رقم ارضي قد لا يكون رقمها الخاص.
على الرغم من انشغاله الدائم، ماكان يفارقه هاجس انتضار مكالمتها. في اليوم الخامس، بدأ يساوره الخوف ان تتوقف قصته معها هنا. انها فتاة عنيدة وعصبية، قد لا ترى مبررا لمعاودة الاتصال به، وعندها، لم يكون من الائق ان يواصل ارسال الورود ايها. يخشى ان تكون اعتبرته مجرد معجب لا يستحق اكثر من مكاملة واحدة.
بدأ يخطط لمواجهة الموقف الجديد عندما فاجاه هاتفها في صباح اليوم السادس.
- اهلا، صباح الخير.
بمكر رجولة طاعنه في ترويض النساء، لم يبد لها سعادته العارمة بسماعها، ولا سألها لماذا تاخرت الى اذا اليوم. من المفروض انه "يملك كل الوقت". هذه المره استعمل معها اللامبالاة، انه سلاح يفتك دايما بغرور المراة، محولا نحوها اسئلة الشك. تبادل معها كلمات مجاملة، سألها عن اخبارها، لكنه لم يمنحها الوقت لتسأله عن اسمه. اعطاها الاحساس انه في اجتماع. ثم ودعها قائلا "اسعدني سماعك". تعبير ملتبس يقال عن الحب .. كما عن محبه.
استعاد عافيته وزهوه وهو يضع السماعة.
لقد خطا حطوة الى الوراء في هذه المكالمة، كما ليقاصصها دون ان تدري لماذا، واثقا انها الخطوة التي ستقفز بقصتهما خطوات الى الامام .. انه يراقصها التانغو.
طالما آمن بان الانوثة ايقاع.
هذه المرأة تراقص روحه. كلامها مزيج من الاغراء والعنف والانفة. انها سيدة التانغو. حتى الاسود الذي ترتديه خلق لهذه الرقصة: رقصة الثأر.
ماكان لهذه التفاصيل ان تفوت رجلا اغترب نصف قرن في امريكا الللاتينية، وما زال في سرة يطلق على كل امرأة اسم رقصة او مقطوعة موسيقية.
كل الفرسان من حولها يمتطون جياد خشبية. هذا ما اكتشفته متأخرة. لكن قلبها يقول ان هذا الرجل لا يشبههم. ربما لم يكن افضل منهم، هي لا تدري بعد. ما تدريه انه يختلف عنهم. انه لا يشبه احد.
يختار ورودا غريبة اللون، لا تشبه وردا رأتها من قبل، مرفقة بكلمات ما قالها احد قبله.
غموضه، ايجازه، طريقته المبتكره في مطاردتها، في مقاربتها ما عفدتها في رجل.
برغم ذلك هي تحافظ على مسافة الامان. على لهفتها اليه تبطئ السير نحوه، فما اسرعت الخطى نحو رجل الا وخانها رهانها.
حدث وحاولت ان تطبق في الحياة احدى الطرق الحديثة في التعليم، التي تنصح بها مدارس علم النفس المعاصر، فتمنح التلاميذ مند بدء العام الدراسي نقاطا عالية، كي تحفزهم على الحفاظ على تلك العلامات، بد ان تعطيهم العلامة التي يستحقونها، فتفقد حماستهم للتحسن.
اي حماقة ان تضعي اعلى علامة لرجل قبل امتحانه، مراهنة انك بتجميل عيوبه، ستكسبين رهان تحويله الى فارس زمانه.
لن تقع في هذا الخطأ مجددا. على هذا الرجل ان يشقى لينال علاماته.
كانت تفكر بمنطق المعلمة، وكان القدر يقع على قفاه من الضحك، وهو يسترق السمع اليها. هي لا تدري بعد، ان هذا الرجل جاء ليعيدها الى مقاعد الدراسة.
بعد مكالمتين، فازت بمعرفة اسمه الصغير، لكنها اعتبرت فوزها كبيرا.
قبله، كان هاتفها جهازا، بمجيئه اصبح رجلا، وكان رقما فغدا اسما. اسم هاتفها "طلال". اسم سري، وحدها تعرف به.
طلال اسم رجل يقيم في سماعتها، لكن كلماته تنتشر في حياتها مع الهواء.
رجل لا تعرفه الا قليل .. ويعرفها كثيرا. ادخلها في حالة دوار عشقي يصعب الخروج منها. اسكنها في مساحة وسطية بين باقتين وهاتفين، على حافة حرائق الانتضار.
مكالمة بعد اخرى، كان يراخا تزداد تعلقا بما ترك لها من اضاءات وسط اسرار عتمة، وها هي ذي تترقب صوته، تلومه على انقطاعه، تحتفي بعودته، تلاحق هواتفه مدا وجزرا.
اصبح لها عليه حق الحب، وه واجب العاشق في الاطمئنان عليها، والاطلاع على برنامجها اليومي، من دون ان يبادر احدهما بقول كلمة حب للاخر .
استسلم لعادة سماعها يوميا. كان يهاتفها بين المطارات والاجتماعات، او بين المكتب والبيت، اثناء وجوده في السيارة.
كانت تتفتح كزئبقة مائية ظهرت فجأة في بركة المياه الانسه لحياته. وحين عرضت عليه ان ان يلتقيا، قرر ان يضعها امام امتحان شيطاني قبل ان يسلمها قلبه.
ذلك انه كان دائم الشك في كل من يدخل حياته المهنية او العاطفيه. حذر بحكم ثرائه، لاعتقاده ان اصحاب جيبه، يفوقون عدد اصدقائه، وان السحر اساطع للمال، كثيرا ما غطى عى سحره الشخصي.
لعلها فرصة ان يختبر في امرأة لا تعرفه، حضوره العاري من ابهة الجاه، فبريق الثراء حوله الى بؤرة اشعاع يجذب ضوؤها الناس اليه، فيبدو حيت حل جميلا بما يملك .. لا بما هو.
حين اخبرته انها ستقيم حفلا في باريس، عرض عليها ان يلتقيا هناك، متذرعا بكونها مشهورة في بيروت، ولن يكون سهلا ان يلتقيا في مدينة عربية. مدعيا ان سفرها يوافق تواجده في اوربا.
وجدت في عرضه حرصا منه على صيتها، واكبرت فيه ذلك. بدأت تحلم بلحضة لقائها بها، فهي لم تزر باريس لا مرة واحدة مع والدها واخيها قبل سنوات، يوم كان احد اعمامها يقيم هناك. ربما اشفق الله عليها من عودتها الى باريس لتواجه وحدها وجع ذكراهما، فواساها بان بعث لها بهذا الحب.
لم تلتق من قبل مع رجل في مدينة تتنفس الحرية، ولا كانت يوما حره. لعلها فرصتها لكسر قيودها، واكتشاف العالم. عادت وصححت نفسها: اكتشاف العالم لا الانكشاف به، فكل ما تتمناه هو جلسة جميلة مع هذا الرجل، الذي لون حياتها بالورود، والكلمات التي لا تدري من اين يقطفها لها، كل مرة.
قضت يومها كله تجوب المحلات مع نجلاء، بحثا عن ثياب انيقة، تليق باقامتها بباريس وبذلك اللقاء. قالت نجلاء متذمرة في اخر المطاف:
- الناس يقصدون باريس للتسوق وانت تتسوقين قبل الذهاب الى هناك .. هلكتيني يا اختي مافي شي عاجبك.
اجابتها مازحة:
- ما ادراك .. ربما لن يترك لي الحب في باريس من الوقت
لا تريد اخبارها انها ستتقاضى مباغت رمزيا، نظرا الى كون الجالية الجزائرية هي التي تنظم الحفل. في الواقع، دون ان تعي ذلك، تابى ان تنفق على شراء ثوب، مبلغا يتجاوز ماكانت تتقاضاه في شهر يوم كانت مدرسة. مازال مبلغ 170 دولار يشكل بالنسبه اليها حاجزا نفسيا عليها ان تتخطاه.
ماكان لها من شاغل سوى توضيب حقائب الحلم، وحين غدت احلامها جاهزة للاقلاع، وجاء وقت التفاصيل الصغيرة، هاتفها سائلا:
- اية ساعة تصل طائرتك؟
قالت:
- الساعة السادسة يتوقيت باريس.
- على اي مطار؟
- مطار شارل ديغول.
- حسنا .. ثمة رحلات من لندن كل ساعة تقريبا. ساغادر لندن بحيث اصل قبلك وانتظرك هناك عند مخرج الركاب القادمين.
ردت:
- في جميع الحالات لن نضيع بعضنا البعض فأنت تعرفني اليس كذالك؟
واصلت ممازحة:
- او احمل باقة الورد تلك كي استدل اليك
رد بنبرة جادة:
- ان لم يدلك قلبك علي فلن تريني ابدا .. وهذه القصة لا تستحق ان تعاش.
فاجأها بمنطق التحدي العاطفي الظالم لامرأة لم تره من قبل، ولا تعرف في نهاية شيئا عنه.
ما توقعت الى اي حد كان جادا. قررت ان ترفع التحدي
قالت وهي تنهي المكالمة ضاحكة:
- فليكن .. موعدنا في مطار شارل ديغول
لم تكن تدري اي فخ نصب لها فقد اوهمها انه يكلمها من لندن. كيف لها ان تتوقع وهو يطلبها من رقم فرنسي، انه في الواقع لم يغادر وانه يحدثها من .. بيروت.
هو يعرف الان عن تفاصيل رحلتها ما يكفي ليأخذ الطائرة نفسها، ويسافر معها في مقصورة الدرجة الالى. فهي التي اخبرته سابقا انها ستسافر من بيروت، لعدم وجود رحلات في ذلك التاريخ من الشام، وانه لولا سفرها على الدرجة الاولى لما وجدت مكانا في تلك الطائرة، معلقة:
- معقول؟ ثلاث طائرات يوميا الى باريس ولا تضمن وجود مكان فيها
رد
- طبعا. انه موسم الاعياد.
اقسلى الذكريات واطرفها، تلك التي عاشها يومها وهو جالس لمدة اربع ساعات على بعد خطوات من انشغالها عنه .. بالرجل الذي كانت تتهيأ للقائه.
كانت على قرب مقعدين منه، لكن ابعد من يوم شاهدها على التلفزيون. انها ابهى من الشاشه، لكنها ليست طويلة كما كانت تبدو، وهذه اول مرة يراها داخل معطف اسود. معطف انيق دون برهجة، بحزان مربوط على جنب، يزينه شعرها المنسدل على كتفيها. ناولت المضيفة معطفها، فبدا له جسدها لاول مرة عن قرب. هو الان على مرمى يده، وملء نظره. كان يمكن ان يقف ويسلم عليها، ان يرفع خصلة الشعر من على جبينها ويقول "مرحبا هالة .. هذا انا". غير انه احب دور الرجل الذي لا تراه .. ولا يرى سواها.
تاملها وهي تطالع الصحف، وهي لا تاكل الا قليلا مما قدر لها من مأكولات. كأنها ولدت اميرة. لا اشهى من امرأة تجلس في الدرجة الاولى، وتترفع عن الانهماك في الاكل. الناس يفعلون ذلك عادة لقتل الوقت، ولابعاد التفكير وهم في الجو في احتمال الموت، لذلك تتنافس شركات الطيران لفتح شهيتنا على كل المباهج، كي ننسى اننا مجرد ريشة في الهواء الا اذا كانت المباهج التي تنتظرنا عند الوصول اشهى مما يعرض علينا، عندها فقط نزهد في كل شيء بانتظار لحظة الهبوط. تمام كما يحدث لها الان.
انه استخفاف المكان بالزمان. هي تيتعجل الوصل بعد اربع ساعات الى رجل يجلس بمحاذاتها ولا تراه.
اضحكه فشلها في معرفة طريقة استعمال سماعات الموسيقى او طريقة تغيير الشاشة المقابلة لها، والتي كانت مثبتة على بث مسار الطائرة والوقت المتبقي للوصول. من الواضح انها لم تسافر كثيرا.
كان بامكانه، تماديا في عبثية الموقف، ان يتطوع لمساعدتها. لكنه قرر الا يفعل حتى لا يفسد للمكان خديعته.
قبل الوصول بقليل، وقفت "النجمة" واخذت من حقيبتها محفظة صغيرة وقصدت احمام. حتما ذهبت لتتفقد زينتها، فقد عادت باشراقة واضحة، جددت حمرتها وسرحت شعرها على جنب.
القت وميض ابتسامتها على الركاب، كتلك التي تركي بها "النجوم" على العامة من باب المجاملة. لم يلتقط الابتسامة، تركها تسقط ارضا. مات فرحه وهو يراها تستعجل النرول للقاء رجل سواه.
عندما حطت الطائرة، نركها تسبقه الى مغادرتها. وجد نفسه خلفها ببضعة ركاب لكنه انهى اجراءاته قبلها لحيازته جواز سفر اجنبيا وسفره دون امتعة عدا حقيبة يد، ما اتاح له الخروج وانتظارها مع جموع المستقبلين.
زحام وازدحام .. واحلام تتهشم بين الاقدام. امواج من البشر القادمين والمغادرين، وهو المغادر من قبل ان يصل، لكنأنه جاء ليغادر.
راح يتابع حيرتها امام وجوه الرجال وهيئاتهم. تأملها من بعيد وقد استوقف نظرها رجل تمنت لو كان هو. بادلها الرجل النظرات عندما رأها تحدق فيه. لكن قبل ان تتوجه نحوه، قادها حدسها اى خيار خاطئ اخر .. بالمعايير الجمالية ذاتها.
اذا هكذا تمنته ان يكون، او هكذا توقعته .. عربي اربعيني .. وسيم يسحب حقيبة جلدية سوداء خفيفة. او مثل الاخر يسافر بدون امتعة، سوى بذلة يحملها بيده في غلاف جلدي .. وبيده الاخرى يجر حقيبة رجل اعمال.
على نصف خطوة منه كانت .. دون ان تبلغه.
لم يحاول ان يقف في حيز نظرها، عساه يساعدها على اجتياز الامتحان في الحظة الاخيرة.
لعبة خطيرة تلك التي اختارها لامتحانها. هي هنا امامه، هل الاهم الامساك بها .. ام التمسك بقراره؟
حدسه كان يقينه، هي لن تتعرف اليه. ماكان لها اصلا من عيون الا لغيره من الرجال. قرر ان ينسحب امام اول خطأ، فهو لا يتقبل الهزيمة، ولا يرضى ان يذل ولو امام نفسه.
في الواقع كان بامكانه ان ينصرف حال نزوله من الطائرة، فالامور قد حسمت قبل الوصول. لكن ما اراد ان يعرفه، هو كيف تمنته ان يكون. اراد ان يرى المسافة الحقيقيه بينه وبين احلامها. بينه وبين ما يعريه منه المال .. عندما تساويه الفرص بباقي الرجال.
ماكاد بهو المطار يفرغ في انتضار وصول الرحلة القادمة، حتى رأها تغادر المطار خائبة. عند الحد الفاصل بين فرصة وضياعها .. ضاع منها.
طلب سائقه على الهاتف لمحها من زجاج سيارته تنتظر دورها امام حطة التاكسي. نركها للمطر. ابتسم بمكر. قرر لحظتها ان يثأر لذلك الخذلان العاطفي بموعد لن ترى فيه سواه.
في الصباح لما اسيقظ ، لم ينس ان يهاتف معهد العالم العربي، منحلا شخصية صحفي، سائلا عن عنوان اقامتها.
سيواصل مفاجأتها. لكن باشعارها بعد الآن انها خسرته.
ما توقعت كمينا محكما كهذا. كيف لها ان تتعرف اليه في مطار؟
الم يجد مكانا اقلا ازدحاما ؟
انها لعبة غير مزيهة، مادام وحده احد الطرفين يعرف الاخر. ثم .. اما كان يمكن ان يكسر قواعد اللعبة في اللحضة الاخيرة معلنا انه هزمها؟ اي انتصار هذا الذي يخسر فيه موعذا انتظره طويلا.
عليها الان بعد الترقب المبهج، ان تتاقلم مع الغياب الموجع.
كانت تحتاج اليه من اجل كل الافراح التي منت بها نفسها، والمباهج التي خالت القدر سيهديها اليها اخيرا. وايضا لمواجهة انكسارات الروح، في مدينة زارتها قبل خمس سنوات سعيدة، وتعود اليها وحيدة. حمدت الله ان يكون عمها الذي استقبلهم هي ووالدها وعلاء في بيته قد ترك باريس وعاد بعد تقاعده للعيش في الجزائر.
لو كان بباريس، لكان افسد حفلها بوعيده، كما في الجزائر متهما اياها بتدنيس شرف العائلة، لكونها "لم تجد رجلا يتحكم فيها". كأنما الموت غنيمة حرية، سعدت بالفوز بها حين فقدت اغلى الناس اليها.
لو كان اكثر حنوا وتفهما ، لربما بقيت في الجزائر .. لكن، كثيرا عليها ان تخوض معارك حتى ضد اهلها.
في الثمانينات، قصد والدها حلب دراسة الموسقى، فعاد منها بعد سنتين وكأنه تخرج من مدرسة الحياة. بينما كان عمها قد سافر في السبعينات للعمل في فرنسا، وعندما عاد الى الجزائر ليتقاعد، بدا وكأن تلك السنين في اوربا لم تترك اثرا في عقليته.
فجأة طالت لحيته، وتغيرت لغته، واعتمد لياسا زي الافغان، واصبح لا يتردد على بيتهم. ودون ان يعلن ذلك، كان واضحا انه رأى في احتراف اخيه للغناء ارتكابا لفعل مستهجن يقارب الحرام.
اخر زيارة لهم لم يمكث للعشاء، كان قد حضر ليأخذ من ابيها تسجيلات ينشد فيها والده ابتهالات دينية في احدى المناسبات، ومضى.
كان المطربون على ايام جدها منشدين، وابناء طرق وزوايا دينيه. وكانو ثوارا ايضا ومجاهدين، نجا بعضهم وسقط اخرون، كاحد ابناء مشيخة الزاوية المختارية، الذي اكتشف امره. كان عازف كمنجة ويهرب وثائق اثورة بالصاقها في جوف الكمنجة. سمعت القصة من جدها، الرجل الذي اهدى لها طفولة سعيدة، دون ان يسعى حقا لذلك، فقط منحها حظ التردد عليه في بيته على ربوة عند اقدام الاوراس.
كان جدها بسيطا، منسوب حكمته اعلى من منسوب حصاره، زاهدا في بهارج الحياة وقشورها. يحيا في تعايش سلمي مع الطبيعة، يخضر الاعراس، يسمع بالولائم، ينشد مع المنشدين، ويغني مع المغنيين ما يحفظ من الثرات البربري الشاوي. لكنه لا يقبل ملا من احد، ولا حتى من ابناءه. يبيع عند الحاجة رأسا او رأسين من ماشيته. كل ما يحتاج ايه يوجد في مزرعته. وما كان يحتاج للكثير. عاش متصوفا على طريقته، لم يستهلك يوما بذلات ولا ربطات عنق ولا احذية جديدة، ولا حتى ادوية.
عبر الحياة ناصع البياض، من برنسه الابيض الى كفنه الابيض. سمعه يقول يوما لوالدها في جلسة احتد فيها النقاش ""لما تموت وعندك مليون من البانك وحدك على بالك بيه .. لكن كي تكون بلا كرامة الناس الكل على بالهم بيك .. صيتك اللي يعيش مبعدك مش جيبك".
ماكان لجدها من جيب، هو لا يحتفظ بشيء لنفسه فما حاجته اليه؟ في بيته لا ينام الا الضيوف، يستبقيهم ثلاث ايام حسب اصو الضيافة، وفي اليوم الثالث يقسم ال يغادرو بيته الا محملين بالسمن والفريك والكسكسي. ذات مرة، احتجت زوجته لانه اعطى الضيوف جل مؤونتهم. رد عليها "يامرا .. الكرم يغطي العيوب .. يمكن شافو منا شي ما شفناهاش .. خلينا نستر حالنا بالجلود".
كان من "ولاد سلطان" الذين يقال عند ذكرهم "سلاطين وما ملكوا". لسخائهم، لم يتوجو، تنازلو عن جاه الحكم ليسودوا بجاه الكرم، هم سلاطين بما وهبوا لا بما كسبو. على حاجاتهم يغدقون حتى ليبدو لمن يزورهم انهم اثرى منه. لذا، عندما سقطت قسنطينة، لجأ احمد باي اليهم، فقد كان بايا في ضيافة بايات، وفارسا في حماية ارض هي حصن طبيعي، تابى ان تسلم من يلوذ بها. فلتلك الارض اخلاق عربي، انصهرت في وجدان الشاوية، وجعلت منهم اشرس المدافعين عن قيم العروبة.
ما نسيت دموع جدها وهو يبكي مآثرهم. لعل ما ابكاه، ال جوده ما ترك ليده ما تجود به. حتى في الموت كاو الاكرم، مقبلين على الشهادة بسخاء، فمن الاوراس انطلقت شرارة التحرير. ماكان يمكن للثورة ان تولد الا في تلك الجبال "الشاهقات الشامخات". جغرافيتهم هي التي انجبت التريخ. على مدى تسعة اشهر، حمل رجال الاوراس الثورة وحدهم، احتضنوها شعلة فحريقا، اودى بقراهم ومزارعهم واهاليهم ودشراتهم وماشيتهم. عزلا واجهو جيوشا لا عهد لهم بعتاد، وحروبا ما عهدوا اهوالها. فقد اعتقدت فرنسا انها ان سحقتهم، سحقت الثورة الى الابد. حينها هب قادة الثورة ليكفو الحصار عن الاوراس بنقل العصيان الى مناطق اخرى، بعد ان رأو انه من غير العدل ان تستفرد الجيوش الفرنسية بأبناء الاوراس دون غيرهم.
قبل عيد ميلادها السابع عشر بايام رحل جدها احمد. بلغت سن الرشد باكرا. موته كان اول علاقة لها بفاجعة الفقدان. كان كالاوراس المكلل ابرا بالثلوج، يبدو بقامته الفارغة وبعمامته البيضاء قريبا من السماء، فلم تكتشف انه تحت العمامة كان شيخا ويهرم، فحتى شارباه المظفوران الى اعلا لم يطاولهما الشيب.
في طفولتها، كثيرا ماكانت تقاسمه نزهته، تتسلق معه الجبل ممسكة بيده او بتلابيب برنسه، الى ان بلغا اعلى نقطة يمكن ان تصلها قدماه اللتان تربتا على تسلق الجبال، حينها يجس تحت شجرة من اشجار الصنوبر، وعندما يرتاح، ياخذ نايه المعلق اى ظهر برنسه، ويشرع في الغناء، غناء كأنه نواح، يفضي به الى التجلي نشوة كلما عبر صوته الوديان الى الجبال الاخرى. لا يسعد الا عندما يعود له رجع الصدى، وكانه احدا يرد عليه من الجبل الاخر.
لومن طويل اعتقدت انه ينادي على احد، وان ذلك الشخص يرد عليه من بعيد لاستجالة مجيئه بسبب الوادي الذي يباعدهما. فكل غناء كان يبدأ بنداء يطول .. يطول كانه نحيب "يااااااا ياااااااي"..
لعل شجن مروانة جاءها من "القصبة" التي لم تعرف آلة سواها. في النهاية، لكل قوم مزاج ألتهم الموسيقية. قل لي ماذا تعزل اقل لك من انت، وارو لك تاريخك واقرأ لك طالع قومك. للغجر عنفوان قيتارتهم، وللافارقة حمى طبولهم، وللفرنسيين مباهج الاكورديون، وللنماويين شاعرية كمنجاتهم، ولللاوروبيين ارستقراطية البيانو وللاندلوسيين سلطنة العود..
لاحقا ادركت ان غناء رجال مروانة كان امتداجا لانين الناي، ف"القصبة" آلة بوح لا تكف عن النواح، كطفل تاه عن امه، ويروي قصته لكل من يسمتع اليه فيبكيه، لذا الناي صديق كل اهل الفراق، لانه فارق منبته، واقتلع من تربته، بعد ان كان يعيش بمحاذاة نهر، عودا اخضر على قصبة مورقة. ترك ليجف فاصبحت سحنته شاحبة، وانتهى خشبا جامدا. عندها تم تعريضه للنار ليقسو قلبه، واحدثو فيه ثقوبا ليعبر منها الهواء كي يتمكنو من النفخ فيه بمواجعهم.. واذا به يفوق عازفه انينا.
من ترى جدها قد فارق، ليصاحب الناي؟
كان يصعد اى قمة الجبل ليقيم حوارا مع نفسه، عن وجع وحده يعرفه. اولعله يعود كلما استطاع كي يختصر صوته، فهو يقيس بحنجرته ما بقى امامه من عمر، ففي عرفه، ان رجلا فقد صوته فقد رجولته.
روى لها انه اثناء حرب التحرير، كان يصعد الى ابعد مرتفع في الجبل، للقيام بنوبة حراسة للقرية، وعندما يرى من بعيد قوافل "البلاندي" والدرعات الفرنسية مقبلة، ينادي منبها ابناء الدشرة لقدوم الفرنسيين، فيتلفت صداه "تراس" في الجبل الاخر، ثم آخر، ويتناقل الرجال النداء عبر الجبال متناوبين على ايصال الخبر الى كافة الاهالي.
كانت الجبال منابرهم، وهواتفهم، ومنصات غنائهم، وحائط مبكاهم، وسقفهم، لذا اعلنت فرنسا الحرب على الجبال، والقت قنابل البابالم على الاشجار .. كي تحرق اي احتما لبقائها واقفة.
لا تذكر انها سمعت جدها يوما يغني اغنية فرحة. برغم ذلك، ما راته يوما حزينا حقا. حين كبرت، ادركت ان رجال مروانه يتجملون بالحزن، يتنافسون على من يحتفي بالشجن اكثر، فالشجن حزن متنكر في الطرب. ذلك ان الطبيعة جعلتهم قساة وعاطفيين، والتقاليد الصارمة اهدت اليهم اكثر قصص الحب استحالة. فكيف لا يكونون سادة الاساطير والغناء؟
في ذلك الزمن الجميل، لم يحدث ان افتى احد بتحريم صوت امرأة، كيف ومروانة اسم انثوي كدندنة تخاله اغنية، هي صغيرة وغير مرئية، كنوتة موسيقية، لا توجد على خرائط المدن الجزائرية، بل على خرائط السولفيج.
كل صباح يصعد رعاتها السلم الموسيقي، اثناء تسلقهم مع اغانيهم جبالهم. يطلقون حناجرهم بالغناء، فيحمل الصدى مواويلهم عابرا الوديان الى الجبال الاخرى. لذا مند الازل يباهي رجالها بحناجرهم لا بما يملكون. ففي مروانة فقط، يرفع الرجال الى السماء ذلك الدعاء العجيب الذي لم يرفعه يوما بشر الى الله " يا ربي نقص لي في القوت .. وزد لي في الصوت"". لزهد الطلب، استجاب لهم الله.
مروانة .. يا لغرورها، فهي بلدة تعتبر حالها بلدا، فهي تعتقد ان مضاربها تصل حيث صوتها.
لفرط ما رافقت جدها على مدى سنوات الى ذلك الجبل، اعتادت ان ترى العالم بساطا تحتها. لم تكن نظرة متعاليه على العالم، لكن تعلمت وهي على منصة للطبيعة، الا تقبل ان يطل عليها احد من فوق.
هكذا تحكم جبل الاوراس في قدرها.
نامت متعبة. تمنت لو استقبلتها باريس بالاحضان. لكنها استقبلتها بالامطار وبباقة ورد تقول "تمنيت الا تخسري الرهان".
كيف عرف هذه المرة ايضا مكان اقامتها، ومن يكون هذا الذي يتحكم في نشرتها العاطفية مذا وجزرا؟ باقة بعد اخرى بدأت تكره هذه الورود المتعالية الغريبة اللون. هي ابنة المروج، نبتت بمحاداة الازهار البرية، لها قرابة بأزهار اللوتس، وبزهرة السيكلامان الجلبية، لفماذا يطاردها بهذه الورود الغريبة اللون ؟ لو انها ما تحذثت اليه على الهاتف، لخالته احد المرضى النفسانيين. لكنه يبدو رصينا وصارما في قراراته، بقدر مكر مناوراته. رجل في كل غموضه الآسر، غموضه المرعب. ما توقعت وهي تقبل بقواعد لعبته، انها كانت عند اول خطأ معرضة لصاعقة فقدان. ابعقل ان تكون فقدته حقا لمجرد كونها لم تتعرف اليه؟
انتابها اسى خسارة شيء لم تتملكه اصلا. لكن كان امتلاكه حلما.
طلبت امها تطمئنها والا فلن تنام هي الاخرى،وستالف في ليلة كل سيناريوهات المصائب. هكذا هي، ماعادت تتوقع خيرا من الحياة. احيانا ينتابها الاحساس انها غدت والدة امها. لقد هد الالم تلك المرأة، التي كانت في السابق قوية اى درجة اتخاذ القرار بمغادرة حلب قبل ثلاثين سنة، والاقامة مع زوجها في بلاد لا تعرف عنها شيءا، والتاقلم مع ظروف ماكانت تشبه حياتها في سورية.
ردت نجلاء على الهاتف مبتهجة:
- كيفك حبيبتي .. ان شاء الله وصلت بخير؟
- الحمد الله .. وانتو كيفكم ؟
- تمام
- وهيدا الاخوت تبع الورد .. كيف طالع؟ ان شاء الله حلو؟
ردت باقتضاب:
- ايه حلو ..
ولو قالت انها لم تره، لكان عليها ان تحكي نصف ساعة لتشرح ما حدث. وهي تتحدث على هاتف الفندق وسعر المكالمة مضاعف. لاحقا ستحكي لها التفاصيل.
- فيكي تعطيني ماما ؟
- خالة عم بتصلي ..
- طيب طمنيها اني وصلت بخير. بكره بحكيها .. باي حبيبتي.
امها كانت تريد ان تزوج علاء بنجلاء. تقول انهما خلقا لبعض حتى في تقارب اسميهما وانهما ماشاء الله الاثنين "حلوين". اليست ابنة خالته؟ ثم تحاول اغراء نجلاء باخلاقه "يقبرني شو طيب وشو عاقل هالولد". غير ان لعنة علاء كانت بالذات في وسامته وحسن اخلاقه.
في الواقع، كانت امها تخطط لجعله يغادر الجزائر، وينجو من برد بدأ يهيمن عليها الجنون، ويحكمها الخوف والحذر.
ما ارتاحت ابدا لقراره الاقامة في قسنطينة لمتابعة دراسته في اطب.
كان عذره انها الجامعه الاكبر في الشرق الجزائري، وكان مأخذها انه ذاهب الى بؤرة الاصولية، محملا بعقيدة الحياة.
صدق حدس امومتها. كانت جامعة قسنطينة ممرا اجباريا لكل افتن، وختبرا مفتوحا على كل التطرفات. وبرغم ذلك، حاول علاء على مدى اربع سنوات ان يضع مسافة حذر بينه وبين زملائه. لكن ليس بينه وبين الزميلات، الللائي كن ياجأن اليه لما يوحي به من طمئنينة، وما يشع به من تميز في هيأته كما في تصرفاته. كان ذلك مصدر متاعب اضافية، فأصحاب اللحي لم يغفرو له حظوته لدة بنات الجامعة، برغم قدر الاحترام الذي كان يحكم علاقته بهن، ولا غفرو له المجاهرة بآرائه تجاههم.
ما حدث على ايام الرئيس بوضياف، ان قامت السلطات بمداهمة الجامعات، والقاء القبض على عشرات الاسلاميين، وارسالهم الى معتقلات الصحراء بعد ان ضاقت المدن بمساجينها . عندها قرر علاء ان يترك الجامعة حال تقديمه لامتحانات اخر السنه، استجابة لالحاح امه، على ان يسافر لاحقا الى العاصمة لمواصلة دراسته هناك.
كان يفصله عن الامتحانات شهران، لكن القدر كان اسرع منه، مامر اسبوع حتى حضر الى الجامعة رجال امن، وقتادوه مع اثنين اخرين.
من يومها اخذت حياته مجرى ماساة اغريقية، تتناوب فيها الآلهة على مصارعة انسان اقترف ذنب حب الحياة، وحب فتاة ماكان يدري ان احد الملتحين يشاركه حبها. ولانه لم يحظ بها، وشى به زورا حتى لا يخلو لهما الجو اثناء اعتقاله.
كانت معتقلات الصحراء تضم عشرات الالاف من المشتبه بهم، يقبع بينهم الكثير من الابرياء، فلا وقت للدولة للتدقيق في قضاياهم، او محاكتهم، لانشغالها بمن احتلو الغابات والجبال، واعلنو الجهاد على العباد والبلاد.
وجد علاء نفسه متعاطفا مع الاسرى، بعدما رأه من مظالم وتعذيب، وما عاشه من قهر وهو يحاول عبثا اثبات براءته. بعد خمس اشهر اطلق سراحه، لم يقم بين اهله اكثر من بضعة اسابيع، كان ثمة في كل حي شبكات تجنيد، كما شبكات اختطاف الاطباء والتقنيين وكل ما يحتاج الارهابيون الى مهاراتهم. اقنعوه بان يلتحق بالجبال، ليضع خبرته في اسعاف "الاخوة" هناك ومعالجة جرحاهم.
لم يستشر احدا، ولا اخبر احدا بقراره. تحاشى تضرعات امه ودموعها، والغضب العارم لابيه الذي ماكان ليقبل بانحيازه ل"حزب القتلة". هاتف مقتضب منه اه=خبرهم بذلك. قال انه هناك ليعالج الناس ليس اكثر.
كان فيه شيء من غيفارا، ذلك الذي استعمل رحمة البيب لمداواة الشعوب من جراح الوحوش البشرية ايا كان اسمها، دون ان يفرق بي الظالم الحقيقي، والظالم المدجج بسيف العدالة.
علاء يصلح بطلا لرواية يعيش فيها البطل حياة لم يردها، حدث له فيها نفيض ما تمناه تماما.
كان يكره اصحاب البزات واصحاب اللحي بالتساوي، وقضى عمره مختلطا بينهما بالتناوب. وجد نفسه خطأ في كل تصفية حساب، يحتاج الى لحيته حينا ليثبت لهؤلاء تقواه، ويحتاج الى ان يحلقها ليثبت للاخرين براءته، حاجة الضحية الى دمها ليصدقها القتلة.
انتهى به الامر ان اصبح ضدهما معا. ادرك متاخرا ان اللعبة اكبر مما تبدو. كان المتحكمون يضخمون بعبع الملتحين، يغتالون صغارهم، ويحمون كبارهم الاكثر تطرفا. يحتاجونهم رداءا احمر، يلوحون به للشعب حين ينزل غاضبا كتور هائج في ساحة كوريدا، فيهجم على الرداء وينسى ان عدوا قد يخفي عدوا اخر. فهو يرى الرداء ولا يرى الماتادور الممسك بالرداء، وفي يده اليمنى السهام التي سيطعن بها الثور، وفي اليسرى الغنائم التي سطا عليها.
الخيار اذا بين قتلة يزايدون عليك في الدين، وبذريعته يجردونك من حريتك .. وآخرون مزايدين عليك في الوطنية، يهبون لنجدتك، فيحمونك مقابل نهب خزينتك.
حاولت ان تخرج اخاها من تفكيرها كي تستطيع النوم، فأمامها في الغد مشاغل كثيرة. لكن علاء يطل عليها من كل شيء، فاجعتها به تفوق فاجعتها بابيها. مند سنتين ما استطاعت يوما واحدا ان تتقبل فكرة غيابه، فكيف تنساه في باريس التي زارتها معه.
اغمضت عينيها على منظر باقة التوليب.
شيء ما يقول لها ان ذلك الرجل سيطلبها، والا لما قام بجهد البحث عن عنوانها. كانت تلك الفكرة الوحيدة التي يمكن ان تدخل السعادة الى قلبها.
هو طاعن في المكر العاطفي، ويعرف كيف يسقط انثى كتفاحة نيوتن في حجره. لكنه يريدها ان تنضج على غصن الانتضار. سيغدق عليها المفاجآت، حيثما تكون ستدركها وروده، لكن صوته لن يصلها بعد اليوم.
كان يمكن للطريق اليها ان يكون سهلا، لكن طريقه اليها يمر بكبريائه، وهي اخطأت في تقدير الخسارات، لحضة قبولها بقانون اللعبة.
لقد اهانت ماكان كبيرا فيه، وشوهت ماكان جميلا، وشوشت علاقته برجولته. اما من بذلة تكسود غير ثروته؟ وحين يخلع ثراءه، بامكان عابر سبيل ان يفوز عليه بقلب امرأة، لانه اكثر وسامة او شبابا منه. ما نفع عمر اذا، قضاه في صنع اسطورة تميزه، والعمل على رفعة ذوقه، وسطوة اسمه؟ اتكون كل النساء الالئي يطاردنه يكذبن عليه؟ يغازلن جيبه لا قلبه، ويحلمن وهن معه برجل سواه.
حتى هذه الفتاة التي ليست اجمل ما عرف من النساء، لم تكترث بوجوده على مدى اربع ساعات قضتها بمحاذاته، ولا لفت شيء فيه نظرها وهو منتصب امامها في المطار، برغم ان ثمة من تغزلن بعيينيه، واخريات باناقته، او كارزما طلته. لعلها لا تدرك بعد ما يغري فيه.
قصد مكتبه. قضى يومه منهمكا في العمل ليتهمك في نسيانها. برغم ذلك راح يفكر: ايرسل لها وردا بعد غد الى حفلتها .. املا ؟
قرر الا يغير عادته. بلى سيرسل لها الباقة اياها لكن بدون اية بطاقة، لمزيد من العبث باعصابها. ستتوقع وجوده في القاعة، وستواصل البحث عنه بين الجمهور .. هي تدري ان مثله لا يختلط بجمهور .. انه الجمهور في حد ذاته.
امد سكرتيرته الفرنسية بتاريخ الحفل وعنوان القاعة، وقال على غير عادته لما ليبرر تعليماته:
- اني مدعو اى حفل يتعذر علي حضوره. ارسلي مساءا باقة ورد الى هذا العنوان، وكلفي احدى الشركات بتصوير الحفل.
هاقد اصبح يتصرف كصائد، يجمع كل التفاصيل عن ضحيته. وماذا لو كان هو الضحية في حب كامل الدسم .. مكتمل الالم؟
ما يعنيه هو اللحضة التي تتلقى فيها باقته، وتروح تبحث عنه بنظراتها بين الحضور، متوقعة انها هزمته، وارغمته على خرق اصول اللعبة.
يسليه تأمل النساء، في تذبذب مواقفهن، وغباء تصرفهن امام الاشارات المزورة للحب.
انتابها خوف لذيذ وهي في طريقها الى الحفل، غير ذلك الخوف الرهيب الذي عرفته يوما.
هذه اول مرة تغني في باريس. ينتظرها جمهور جزائري وفرنسيون من المتعاطفين مع الجزائر، فقد غطى الاعلام حدث حفلها ضمن المتابعة اليومية لما درج على تسميته "المذابح الجزائرية".
تلقفت الصحافة قصتها، وهاقد غدت رمزا للنضال النسائي ضد "الاسلاميين" و"العصفورة التي كسرت بصوتها قضبان التقاليد العربية متخدية من قصو جناحيتها".
كان يكفي ان تؤنث المأساه، وتضاف اليها توابل الاسلام والارهاب، والتقايه العربية، لتكون قد خطت خطوتها الاولى نحو اشهرة.
هاتفها ابن عمها جمال يعرض عليها الحضور الى الفندق لمرافقتها الى الحفل. هو يختلف تماما عن والده. شاب عصري، انيق، متفتح، فيه شيء من علاء.
بدا جمال في علاقته معها حائرا بين ابنة عممه التي كان يعرفها ايام زيارتها لهم، والنجمة التي تجلس بجواره في السيارة بكعب عال وشعر مبعثر على كتفها، وفستان اسود طويل.
لتطمئنه انها لم تفقد روحها الجزائرية الساخرة، قالت مازحة:
- لو كنت رايحة انعني في حفل بالجزائر ما خليتكش تجي معاي .. واش نعمل بيك وانت جايني لابس costume وحاط الجل على شعرك .. يلزمني واحد بحزام اسود للمصارعة .. او بالاحرى اربعين مصارعا لمرافقتي.
ام يفهم ما تعنيه. توقع انها تستخف بهيأته. امام صمته اضافت موضحة:
- الم تعلم انه بسبب تهديدات جماعة من الاصوليين اضطر القائمون على حفلات قاعة الاطلس في العاصمة الى استقدام اربعين مصارعا من الحاصلين على حزان اسود لضمان حياة أيت منغلات والجمهور الذي حضر حفله، خشية ان يتم الاعتداء عليهم من قبل من حاصرو القاعة في الخارج؟ تصور في كل بلدان العالم يقصد المطربون الحفل مع فريق من المصورين والمزينين. اما عندنا، فيدخل المغني القاعة بفرقة من المصارعين. وبرغم هذا، انت لا تضمن حياتك .. لو ارادو رأسك لجاؤو به حتى لو حضرت برفقة "بروس لي" بطل فنون القتالية شخصيا.
علقجمال مازحا:
- انا مانيش انتاع هاذ اشي .. خاطيني الكاراتي .. في البلاد شوفي واحد اخر يروح معاك.
- تعرف .. والله اغار من الذين يعزفون في الميترو في باريس. كل يغني على مزاجه. قد يمر احدهم ويضع له قبعة يورو، وقد لا يضع شيئا. لكن على الاقل لا يضع له رصاصا في رأسه.
واصلت ضاحكة:
- الحمد لله نظل احسن حالا من الاوركسترا الوطنية العراقية .. اطلقت عليها الصحافة اسم "اشجع اوركسترا في العالم". تقيم حفلات سرية لا يرغب المنظمون في الاعلان عنها، بل يفضلون ان يعلم بأمرها اقل عدد ممكن. تصور .. دمرت الصواريخ الامريكية قاعة حفلاتها، وخطف البعض من أفرادها، وقتل اخرون لاسباب طائفية، وفر نصف اعضائها للخارج .. ومازل من بقو على قيد الحياة يقطعون حواجز الخطف والموت، ويصلون الى المسرح ببزاتهم السوداء، حاملين
آلاتهم في أيديهم ليعزفوا وسط دوي المتفجرات مقطوعات سمفونية لباخ وفيفالدي..كما لو كان كل شيء طبيعيا.مشهد سريالي،الفرقة والجمهور مرعوبون لكنهم يستعينون على خوفهم بالموسيقى. والله هم ينسيك هم!