ذهبية : شَظآيا خطيئةٍ ✿ أنا عائشةُ , مدَلَّلَةُ أبي , ومحبوبةَ أمي , كنتَ أميرةَ القلوب , كنتُ حُلمًا لأمراءِ الشرق والغرب حتى سجنت نفسي في غياهبِ خطيئة . أنا عائشة , فاقدةُ الضميرِ , أنا القلب الذي تجري في عروقهِ برودة أشد من برودة كانونَ . وأنا القلبُ الذي اتخذَّ من الوجاهة حبيبةً وجعلَ حبهُ لها خالدًا ومن أجلها قاومَ المستحيل ! شهدتُ احتضارَ والدي دونَ أن يرفَّ لي جفنٌ , وفي تلك اللحظة التي سَلَّمَ الروحَ فيها خرجتُ وأمرتُ بتجهيزِ عرشِ أحلامي , ثمَّ تَرَبَّعتُ عليه أُناظِرُ رعايايَ وهمْ يُقَبِّلونَ ثوبيَّ الملكيَّ الأحمر الفخمْ . لمْ أكنْ أنا وريثةَ ذلكَ العرش , وقد كنتُ في البداية متواضعةً في ذلك , فأرسلتُ خبرًا إلى أخي غير الشقيق عمر ليأتيَّ من الحربِ ويستلمَ عرشه بصفتهِ أكبر الأُمراءِ وحتى مجيئه جعلتُ من نفسي ملكةً لأكثر من عامين ... عندما عاد كنتُ أظنُّ أنني وبصفتي الأميرةَ الكبرى سأَتَرأَسُ جناحَ النساء لكنَّه أنكرَ معروفي وفضلي على دولتهِ ومنحَ شقيقتهُ عتيقةَ المنصب الذي كانَ من حقي . انتظرتُ بضعة أيام ثم راجعتُهُ في ذلك الأمرِ , , شعرتُ حينها أنه يبحثُ عن حجةٍ ليقنعني بها , رغبةً منه في أن يسود السَّلامُ في قصرهِ . عندما وجد ما يقوله فتحَ فمهُ قائلًا : عائشة , أنتِ بمثابةِ والدتي , لكن ! قاطعتهُ بقولي : لكن ماذا يا عمر ؟ أتفعلُ شيئًا كهذا بوالدتك ؟ أَتُؤَمِّرٌ عليها من هي في منتصفِ سنها ؟ أجابني وكأن جوابه كان على طرفِ لسانه فقال : قوانينُ القصرِ واضحة , أنتِ متزوجة , سيعودُ زوجكُ عمّا قريب من الحرب, وستعودينَ إلى بيتك . ابتسمتُ في وجههِ متظاهرةً بالرضا فقد لا يأتيني خيرٌ من معاندته وقد أصبح ملكَ الدنيا ,, وأثناء سيري في الحجراتِ لمحتُ أمي وخلفها عشراتُ الخدم الذين يحملون متاعها .. في الواقعِ سُررتُ كثيرًا فلشدّةِ براءتي آنذاك لمْ يخطر في بالي إلا أمرٌ واحد . اقتربتُ من والدتي مبتسمة , فلمستُ في وجهها كدرًا وهمَّا غير عاديين ,, فبادرت إلى قولي : أمي , اعلم أنكِ تحبينَ جناحك , لكنَّ هذا القصرَ بحاجةٍ لملكةٍ والدة , وبما أنَّ أمَّ ملكنا متوفاةٌ فلقبها وجناحها من حقكِ , لا تحزني . بكتْ أمي بحرقة وقالت : أي لقبٍ يا عائشة ؟ أيُّ لقب ؟ بأمرٍ من عمر وعتيقةَ نُفيتُ من هذا القصر . نزلتْ كلماتُ أمي تلك كالسكاكينِ على صدري ,, فقلت مرتجفةً : أيعقلُ هذا ؟ أجابتني أمي وهي تمسح دموعها قائلة : لا بدَّ أن أخاكَ يخافُ على ملكهِ منّا , أعني من شقيقيكِ وسام ويوسف . سألتها باهتمام : ماذا قال لكِ بالضبط ؟ تنفستْ بعمقٍ وقالت : تحجج بالقوانين , صحيح أنها تنص على أن حرم الملك المتوفى عليهن أن ينتقلن من القصر ما عدا أم الملك الجديد لكن ... لا أمَّ له , كان عليه أن يبقيني كرامًة لوالدهِ , لكوني أمَّ أكبرِ أميرٍ على الأقلِّ. توقفتْ فجأةً عن الكلامِ وتابعت بخوفٍ واضح : لا أمير له , قد يقتل أمرائي خوفًا منهم - حماهم الله - . حاولت التخفيف عنها فعانقتها قائلةً : لا تقلقي يا أمي , قيَّدَ عمر المدينةَ بقوانينه منذ اعتلائه العرش قبل أيام , سيكونون مستعدين في أي لحظة لعزله . كنت قادرة على أن أرى مقدار الخوف الذي في قلب أمي فأصغرُ خطئٍ ستكون أرواحنا جميعًا ثمنًا له , بالنسبةِ لي كانَ الخوف من تواري نفوذي إلى الظل أقوى وأعظم ; لذلك آثرت المغامرة على الجُبْنِ والقُعود . لا زلتُ أذكرُ تلك الليلةَ التي استدعيت فيها أخي وسام إلى جناحي , كان جشعي قد أعمى عينيَّ لدرجة أنني اعتبرتُ عرشَ أجدادي مُلكًا لي أمنحهُ لمن أشاء وأحجبهُ عمَّن أشاءُ . سرَّ شقيقي كثيرًا , وهذا ما توقعتهُ منه خاصة لظنه أنه ليس من العدل أن يكون العرشُ لعمرَ وفارقُ السنِّ بينهما لا يتجاوز شهرًا . وافقَ زوجي على دعمنا وحرَّضَ العلماء ورجالَ الدولة على عمرٍ , وعلى الرغمِ من أن خطتنا كانت محكمة وسرِّيَةً إلى أبعد الحدود إلا أنهُ وبعدما أوصلتُ لغرفة شقيقي رسالةً مختومةً بخَتْمِ زوجي لمحتُ عمرًا يدخلها عابس الوجهِ تكادُ النيرانُ تخرجُ معَ أنفاسهِ . لا يمكنُني إنكار حقيقةِ أن قلبيّ وصلَ حنجرتي في تلكَ اللحظة , علمتُ حينها أنَني تعرضتُ للخيانة , وأنَّ روحي ستزهَقُ إنْ لمْ أتصرفْ . أذكرُ أنني أسرعْتُ إلى جناحِ أخي الملكِ وتظاهرتُ أمام حرسهِ أنَّ أمرًا خطيرًا عليهِ أن يعرفَهُ , في الحقيقةِ لم آبهْ لشأنِ وسامَ قطْ , كلُّ ما أردتهُ في تلكَ اللحظةِ أن أحوِّلَ خيانتي إلى إخلاصٍ مطلقٍ أمامَ أخي . عندما دخل إلى الجناح سارعتُ وأخبرتهُ بخطةِ وسامَ مع شيءٍ من التحريف , عندها ابتسمَ أخي واحتضنني وقال : عائشةُ الجميلةُ , لا تقلقي , نالَ وسامُ ما يستحقهُ . شعرتُ ساعتئذٍ بنارٍ اشتعلتْ في صدري , لم تكن من الحزن على شقيقيَ أبدًا وإنما خوفًا من أن ألقى مصيرًا مشابهًا لهُ إن كُشِفَ أمري . ازدادتْ تلكَ النارُ لهيبًا بعدما قال : هو وكلُّ من عاونهُ , جميعهمْ نالوا العقابَ وعلى رأسِهمْ الوزير الأكبر , أعني زوجَكِ يا عائشة . كانَ زوجي الإنسانَ الوحيدَ الذي أحببتهْ , شعرتُ بسكاكينِ ذنبي تخترقُ صدري , شعرتُ بحِمَمٍ تخرجُ من عينيَّ , لكنَّ الشعورَ الأعظمَ كانَ كرهي المضاعف لأخي . كانَ قلبي ضعيفًا قليلًا آنذاك فسقطتُ على الأرض ولم أعِ ما يجري حولي حتى استيقظت في غرفتي . كانت الطبيباتُ حولي عندَ استيقاظي فصرختُ فيهنَ حتى اقترب منّي أخي يوسُفَ الذي عانقني وقال : أختي , سيصبح لديكِ ابنٌ قريبًا . نظرتُ إليه متعجبةً وقلتُ : أنا حامل ؟ سألدُ طفلًا يتيمًا ؟ لا أريد . أيتها الطبيباتُ ,أجهضنني حالًا . كنتُ قد قلتُ هذا من شدةِ غضبي , فأنا ما أحببتُ شيئًا في حياتي كما أحببتُ ذلك الجنينَ الذي في رحمي , شعرتُ أنَّ حبهُ قُذِفَ في صدري عنوةً فقررتُ أن أحارب الدنيا من أجلِ أميري القادم . علمتُ بعد فترةٍ أنني لم أكنِ الوحيدةَ التي قَذَفَ اللهُ الروحَ في رحمِها وأنَّ زاهدةَ زوجةُ أخي الملكِ حاملٌ أيضًا . في الواقعِ لم يكنْ هذا الخبرُ سارًّا البتةَ , فولادةُ أميرٍ لعمر يعني موتَ شقيقي يوسف . بعد عدةِ أشهرٍ بدأتُ أشعرُ بآلامِ المخاضِ في الوقتِ الذي كانتْ فيهِ زاهدةُ تلدُ . أخذتني الطبيباتُ إلى عيادةِ القصر , حينها شعرتُ بأحشائي تتمزق , تمنيتُ ساعتها أن أموتَ وأتخلصَ من هذا الألم الذي أحرقني حيةً . عندما سمعتُ صوت بكاءِ طفلي تذوقتُ سعادةً لم أتذوقها من قبلُ , خاصةً عندما قرَّبَتِ الطبيباتُ طفلي مني لأعانِقَهُ قائلات : سموَ الأميرةِ , رزقكِ اللهُ طفلةً أجملَ من جمالِ الزهرِ . أسندتُ نفسيَ المنهكةَ وقلت : هل تمتْ ولادةُ زاهدة ؟ أأنجبتْ ذكرًا ؟ كانَ هذا جلَّ همي , أصابتني رعشةٌ عندما علمتُ أنها أنجبتْ ذكرًا فتمنيت لحظتها لو أنني أنا من أنجبت الذكر وهي الأنثى . أطلقَ أخي على ابنهِ اسم خالد على اسمِ أبينا أما أنا فقد اخترتُ اسمَ مريمَ لأميرتي الصغيرة . فضَّلَ أخي أن تقومَ مرضعةٌ واحدةٌ بإرضاعِ طفلينا , في الحقيقةِ لم أُحَبِّذ هذا , فقد وضعتُ في بالي خطةً احتياطية ثالثةً تقوم على زواجِ ابنتي بذلكَ الأمير حينَ يصبحَ ملكًا . لكن ما يريدهُ أخي هو ما يحدثُ دومًا . شعرَ شقيقي يوسُف ذاتَ يومٍ أن أخاه عمرًا غيَّر طريقةَ تعاملهِ معهُ , كانَ شقيقي ذاكَ ضعيفَ الشخصية , وكنتُ أشعرُ بالشفقةِ عليه أكثر من تعطشي للسلطة , فوعدتهُ أن أساعدهُ لكنْ بطريقةٍ جديدة . أذكرُ أنني لم أنمْ في تلكَ الليلةِ من التفكيرِ والتخطيط, وبعدما استقرَّيتُ على خطةٍ معينةٍ أرسلتُ خبرًا لخادمتي المخلصة فيريـال , فلمْ أكنْ أَثِقُ إلا بها في كلِّ مهماتي . لم تصدقْ تلك الخادمة ما طلبتهُ ذاك , فعلى الرغمِ من كل تلكَ المخططات التي أصفها الآن بالقذرة , لم أتعرضْ للأطفال قط , لكنها كانتْ مضطرةً لتنفيذ أوامري مهما كانت دمويةً بالنسبة لها . اتفقنا على تنفيذ الخطة بعدَ نومِ مرضعةِ الصغارِ, وفي الوقت المحدد تمامًا أرسلتُ الخادمةَ مع وتَدِ قوسٍ لتقتلَ وليَّ العهدِ ومنافسَ شقيقي, ولعلي اخترتُ خنقهُ لا شيئًا آخر لكي لا يسيلَ دمُ عائلتي على الأرض كدمِ الحيوانات. بقيتُ في جناحي انتظرُ خبرَ انتصاري على أخي وعندما طال غيابُ فيريـال خرجتُ أتحسَّسُ أثرها . كم شعرتُ بالرَّعشَةِ عندما شاهدتُ اخوتي : عمر, ويوسف وعتيقة قادمين نحوي وفي أعينهم حزنٌ غير واضحِ المعالمِ . لم أرى أمامي حينها إلا أعوادَ المشانقِ , وضياعَ المالِ والجاهِ والنفوذِ , شعرتُ ساعتها بالخوفِ على صغيرتي التي ستربى بعيدةً عني . لكنّي استيقظت من شرودِ ذهني عندما أمسكَ شقيقي بيديَّ وقال : عائشة , كوني قويةً يا أختي تظاهرت أمامهُ بالاستغراب فبادرت إلى قولي : ما الذي حدث ؟ بدأتَ تخيفني يا يوسفْ . انتابني احساسٌ بأن شقيقي قد ضعفُ أمامَ ذلك الخبر , لذلك أنزلَ رأسهُ للأسفلِ تاركًا المجالَ لأختي عتيقة لتجيب . نظرتْ إليَّ نصفٌ الأختِ تلك نظرةَ شفقةٍ وبؤسٍ لم اعتدْ أن أرها في وجهها خبيثِ المعالمِ. شعرتُ ساعتها أن مقتلَ وليِّ عهدهم أذبل قلوبهم كما أذبلوا قلبي .. كسرتْ عتيقةُ صمتها ذاك قائلةً : أعانك الله يا أختي على ما أصابك , توفيتْ صغيرتنا مريم , خنقتْ , كانوا يريدون قتلَ أميرنا لكن القدر شاء أن يُخطِئَ ذلك المهاجم و أن يقتل أميرتنا الرضيعة . لم أكنْ أسمعُ ما قالتهُ , فصوتُ احتراقِ روحي كان أعلى بكثيرٍ , تركتُ جموعَ الناس المواسيةِ والشامتة ودخلتُ إلى حيث كانت ابنتي , لم تكن لديَّ القدرة على البكاءِ حتى , فما شعرتُ بنفسي إلا وأنا أسقط على الأرضِ وأقول كلامًا لا معنًى له . اقتربَ منّي المواسون , وعندما لمحتُ وجهَ أخي عمر اقتربت منه وشددت ثوبهُ كمن بعقلها خرقٌ , كان ينظرُ إليَّ نظرةَ شفقةٍ لطالما كرهتُها منه , فصرختُ في وجهه قائلةً : انت السبب , انت السبب يا عمر, أنا اكرهك , كلما حاولت القضاء عليّكَ أجدُ أنني أقضي على نفسي , أكرهكَ يا عمر , فكلما حاولت أن احرقك نجوت أنتَ واحرقتني في شظايا خطيئتي , كم أكرهك . لم يؤاخذني أخي على تلكَ الكلماتِ , فقد كان يعلمُ أنني لُقِنتُ درسًا قاسيًا وأنَّ ما أصابني سبَّبَ لي وجعًا أكبرَ بأضعافٍ من وجعِ العقاب الذي كانَ سيُلحِقهُ بي . وها أنا ذا , أقضي سنواتَ هرمي كعجوزٍ وحيدةٍ رماها ولدُها العاقُّ في قارعةِ الطريقِ فتجلس على عتبةِ الليلِ كل يومٍ تستذكرُ ماضيَها الأليم . أنا الأميرة عائشة أميرة أعظم البلاد , التي ذكرها العلماءُ كلما ذكروا أجدادها , التي حكمت دولة أجدادها لعامينِ من الزمان , أدفعُ ثمنَ خطايايَ الآنَ . كنتُ أظنُّ أنَّ أخي هو الذي حرمني من أمي وأخي وزوجي وابنتي وأحرقَ قلبي وروحي , لكنْ بعد ذلك علمتُ أن جشعي هو من حرمني منهم , وأنَّ طمعي هو من أذبلهم واحدًا واحدًا . أكتبُ الآنَ من وسطِ منفاي , وسجني ومن جوفِ معاناتي , أكتبُ قصتي التي اعتبرتُ منها بعدَ فواتِ الأوان , بعد أن أصبحتُ بلا عرش أو مال , بلا زوجٍ أو أخوةٍ أو أولاد , بلا قلب وروحٍ ووجدان , أكتُبُ لِأطمئن أشلاءَ ضميري , فقاتلتهُ قد أيقنتْ أخيرًا أنَّ الحقدَ سمٌّ يسممُ صاحبهُ فقط .
تمت ... |
__________________ أريد أن يتسع فمي اتساع فوهة بركان لأصرخ في وجهك
التعديل الأخير تم بواسطة آميوليت ; 11-03-2017 الساعة 05:12 PM |