أخفق بنبضة ! .. ثم أستسلم
.. ،
أصدح من جوفك بالعويل ، حتى تدرك صمته .. ،
وأرتحل مع تموجات ماء البحر في ظلمات قيعانه ، حتى تستكفي غرقاً
و تشظف الشهقة الأخيرة بإستكانة الروح التي مرت ما بين أضلعك ،
ثم داعب المرجان و حدّث النوارس ،
عن غيهب قلبك المنكمش .. وكومة عظامك المبعزقة .. وصوتك الذي قًتِلَ مخنوق العبرات ..
ثم أخفق .. وعد سباتاً لا ينقضي .. !
[التاسعة والربع ، مساءً ]
الضيوف ما زاولوا يتوافدون الى القصر ، ولكن بصورة أخف عن سابقتها ،
وبينما كان الإحتفال قائماً بجميع أصناف التسلية ، وكان بداخل مسكن الرئيس ديفيد شارلوت الذي بدى في أحسن هندامه وحسن لبقاته ، يتصرف كالامراء .. ويرّحب بكل وافدٍ في أفخم الضيافات وأكثرها راحة ، ناطقاً بمشاريعه التطويرية للمنطقة ، متحدثاً عن نظرته المستقبلية بما حول نبؤواته الخيالية المستحيلة التحقق والتي أضحكت بعض النبلاء ، وعن خططه التي يشرع بتجهيزها لتكون موقع العمل والجهد الكبيرين .. !
وما بين تأشيرات يديه ، يحاور مجموعة من زملاء بعض الشركات التي يتعامل معها بعنفوان يخالطه التبختر ، والإطراء على ذاته بما ينجزه ، وهو في حقيقته لا يفعل سوى أدناه !!
وكان السيد أبسالون يرمقه على بعد مسافة بنظرة يدفنها الحقد ، وإلى أن وضع طبقه المحتوي على شريحة لحم فوق الطاولة ، وأستدار خاطياً بحذائه اللامع ، وهو ينصت الى جهازٍ ألكتروني صغير يشبه سماعة الأذن الخفية ، مثبتة على أذنه ، ومحجوبة من قبل خصلات شعره التي غطت اذنيه بالكامل لشدة كثافتها .. !
وكان يستمع بإنتباه دون خلق أي صورة على وجهه تدلل ذلك ، وبين موجاتها الصوتية تتراءى ذبذبة ضئيلة ينجلي فيها صوت الكسيوس قائلاً " البوابة الرئيسية المطلّة على حديقة القمر الفضي ، أمشي مع بعض المدعوين ، تمت عملية التفتيش من قبل أحد الحرّاس ، المسدس داخل جيب قاعدة الحذاء ، ستتم إلقاء كلمة الرئيس ديفيد بعد ما يقارب الخمسة عشر دقيقة ، أكون فيها حاضراً في القاعة ، وقبل إنتهائه سأتوجه الى دورة المياه لاخرج السلاح بينما تحواره عن مشروعك الجديد المشترك معه ، ثم تبقى الخطوة الاخيرة لإتمام مهمة أغتياله "
تفشت إبتسامة تتسرطن بمكنونها نشوة النجاح و الحصول على المبتغى بعد طول صبرٍ كاد يستنزفه التريّث اطول ، وماجت عيناه تحتدان في مخلبٍ ماكر .. لمعت حدقتاه ! ، ثم اقتاد كأساً يرتشف منه بحرارة ، وأمسكه بعناية بينما يستدير بعرضه ليحشر نفسه بين المدعوين ، ويحجز مقعده من الصفوف الامامية .. وهو يبصر عجرفة ديفيد بوعيد إنتقام .. !
[ داخل القاعة التاسعة والنصف ، مساءً ]
الامسية أبتدأت للتو ، بكلمة الرئيس ديفيد صاحب هذا الأحتفال الكبير ،
ما كان ما سبق سوى مقدمة بسيطة يكتمل بها الجميع ، فلا ينقص سيد ، أو سيده .. إلا وحضروا هذه الإفتتاحية الضخمة لمشروعه وليد نهضة متطورة .. !
أعتلى خشبة منصبة المسرح الواقع في نهاية القاعة ، بخطى واثقة .. وبسمة تشق محياه المبتهج في اجمل لحظاته التاريخية ،
وكان يرتدي بدلة رسمية تشع لمعاناً نتيجة جزيئات الكريستال الأرجوانية التي أصطكت على القماش السندسي .. وتلألات على سترته التي علّقت حول ياقتها ربطة عنق بيضاء تتمثل بصورة شريطة عريضة ، وبنطاله الذي يحاول إتساع كرشه الطافح و يُحجز دوماً بقيد حزام جلدي شديد ، حتى لا يشظف من تحرره .. !
و حين صطعت الأضواء عليه .. رفع كفّه يجيب الحاضرين سلاما ، ثم وقف خلف جهاز المايكرفون .. ليتلفظ مفصحاً أولى مقدمات الكلمة التي سيعلن عنها الليلة ،
وعلى وقع تصفيق الجميع اللذين احاطوا بالموائد .. يرتقبونها على أفخم المقاعد .. مع إفصاحه عن كنه ذلك المشروع الذي يجري فيه العمل المتواصل والذي حاز على فضول الكثيرين ، بالإضافة الى ترقياته .. !
السيد أبسالون ، يضع ساقاً على الاخرى ، يرتشف الشراب مع رؤياه المتمعنة بعمق ،
هادئاً ، بلا ريبة .. ومن داخله يحصي زحف العقارب على وجه الساعة ، بينما يحيك خياله صورة ديفيد مضجراً بدمائه .. !
أنطلقت بعض الكلمات من السماعة المجسّمة ، وهو يرقب وجوه الحاضرين المتلهفة التي تستمع ، ادار رأسه لبرهة مرسلاً إشارة مبهمة الى الواقف المستند على حائطٍ قريب .. من ممرٍ صغير يؤدي الى دورة المياة .. ،
وأستيقن المعني العبارة التي لم تُلفظ ، حتى خطى عابراً الممر .. !
[ داخل القاعة العاشرة والنصف ، مساءً ]
- لتستمتعوا بليلتكم هذه كيفما شأتم ، فأنا ساكون حاضراً وفي خدمة كل عزيز منكم أيها السادة !
تعالى تصفيقٌ جماهريّ يحي ديفيد متخطياً درجات السلم .. نازلاً من على خشبة المسرح ،
وأعتلى ضحكه سقف القاعة وهو يلتهم عبارات الثناء والإمتنان بنشوة سعادة تغمره من اعلى رأسه قليل الشعر الى أخمص قدميه ، وهكذا كان يشاور بعضاً من الأصدقاء القدامى وهم يتبادلون معاً الضحكات .. رافعين الكؤوس محييةً علم النجاح .. !
وبينما هو يرتوي في أوج نشاطه ، دنى منه أحد الخدم هامساً في أذنه .. !
علته الدهشة ونظر الى خادمه ، ثم أستطرد تلك الغرابة في سرّه هاتفاً بإهتمام ،
- الرئيس أبسالون ! ذلك الاحمق .. صديقي القديم ..
وأنحنى يوقف الكأس على الطاولة ، أستأذن الحاضرين ليفسحوا له مجالاً وهم متنعمين بلذائذ الطيبات ،ومشى ديفيد خلف خادمه بإبتسامة عريضة تاركاً أصدقائه يكملون عنه سير الحديث .. ،
وبينما يقترب من صديقه الذي كان واقفاً على مقربة منه بإنتظاره باسماً ،كان يتخاطب داخل قرارة نفسه بلهفة وجموح أكسبه المزيد من المديح الذي يبيحه على نفسه كل وقت ،
من المؤكد انه بدأ يخشاني بعد أن قرأ عناوين الصحف المناشدة بأسمي إينما وجدت ، كان متعالياً على كل من يلقاه سابقاً ، أصبح الآن كلباً ألييفاً أستطيع ترويضه ، هه ! يالعظمتك يا ديفيد ، أعلى النبلاء جعلتهم خواتم بين يديك .. وشائت الأقدار بعد أن كان يبصق عليك المارة بأن تتوج رئيساً عليهم .. وتلعب بهم كيفما تشاء !!
وأستقام بقامته تشارف أشداقه ان تتقطع من عظيم الغطرسة الباسمة المائلة الى إزدراء
وهتف ابسالون بقناع حذقٍ يمتلأ وداً وطيب ، مدركاً لهيئته تلك التي تحاول إستفزازه عبثاً بغباء منقطع النظير !
- ديفيد أيها الصديق العزيز ! ، أين كنت وأنا أبحث عنك منذ امد ؟
وصافحه بحرارة مفتراً عن أسنانه ببسمة مفادها الإفتقاد والشوق ،
وضحك ديفيد مشيراً بكفه بين ذرات الهواء
- لا بأس عليك يا صديقي ، لم يكن عليك أقلاق نفسك .. كنت فقط منشغلاً ببعض البحوثات القوية التي اجريتها مؤخراً !
- أجل يبدو هذا ..
واستطرد الاخير مكملاً بإهتمام ،
- اخبرني ، كيف حالك هذه الأيام ؟ وكيف تجري امورك ؟ .. بالتاكيد حققت تفوقاً بارزاً في مجال صناعة الاعضاء الصناعية كما قرأت في الصحف !
قهقه بعلو ، ونطق بفخر ،
- هكذا إذن ، كنت تقرأ اخباري كل وقت فور موعد إنتشارها ، آه أجل ذلك صحيح ، فالعينة التي أستخدمتها ادت نتائج مبهرة جعلنا نستمر على هذا النهج في تطوير هذه التقنية ..فأنت تعلم ان الكثير يحتاج منها ..
وغمغم أبسالون بهدوء ، ثم أفصح بجدية ،
- أعجابي بفكرتك جعلني افكر في ضم مجموعتي معك لأستطيع مساعدتك بنفوذي فنكون قادرين معاً على تطوير هذا المنتج الضخم ، ما رأيك بهذا ؟
كان ديفيد يصغي بعينٍ ثاقبة ما أن أستصاخت أذناه كلمة نفوذ .. !
انه يعلم عن صديقه السابق قدرته على كسب مبالغ طائلة وتجارته المستمرة مع الهند التي اجنت أرباحها ، فجعل يحك ذقنه مفكراً بتملّك ، ولكن من ظاهر عيناه فقد كانت الحيرة تعتليه .. !
امسكه أبسالون يشدّه بود أليه وهو يحثه على المضي بخطاه معه ناحية الممر .. !
وكان يتحدث بقناع كاذب يختلق الجدية والتصميم على العمل معه لما يراه من نتائج ستعم على الجميع وتقلص الجهود والتكلفات المرتفعة إن أستقروا بتعاضدٍ معاً لتحقيق ذلك !!
وكل تلك الزينة المبهرجة التي رشّها كبذارة على عباراته التي ألهمت ديفيد عينان تجحظان كلما أحس بطعم الثروة تنساب الى حلقه الذي اصيب بحكة فجائية غريبة .. !!
أنه الطمع بأم عينه ، جعله دوماً في تغاضي عن أصغر التفاصيل وأهمها ، بل أكثر الامور التي يجب ان يحدق بها عقله متفكراً ولو بمقدارٍ ضئيل ، ولا يتمسك الحكمة المنعدمة من قاموس مصطلحاته العرفية قبل إنطلاقة قراراته المتسرعة ، فيبقى إنساناً حمقياً عجولاً عند المال ، كسولاً عند العمل! فلا يفعل شيئاً حتى بتحريك ساكن سوى لإستكشاف سير العمل بإنزعاج ينخر عظامه عند تريّت الأرباح ، ويحمد نفسه الغارقة في نعيم الدنيا بما لا يفعله ، فيخسر دون شعور .. !
وتعالى صوت أبسالون يحادثه وهو يحيطه بذراعه في حبٍ تنجلي فوقه الصفات الجمّة لرابطة الصداقة المتينة ، فنساب عقل ديفيد الى النسيان بما حوله وانجرف مع حروف صديقه المجملة التي تولد بداخله إغراءً عجيب ،
- وبالحديث عن المحصلة النهائية سيكون الفائض أكثر مما تتصوره بالإضافة الى أن مبدأك الإقتصادي الذي يعمل على زيادة تحسين عوامل الإنتاج لفترة من الزمن ، قد يؤدي ذلك الى الإستقرار في الإنتاج ولكنه سينخفض في نهاية المطاف لذا علينا أولاً توظيف شركة عمال آخرين دو أن نبتاع آلات جدد تكون زائداً ......
لمعت عيناه ،
- حسناً ، أنها فكرة سديدة ورأي بناء ولكن ماذا عن كمية الأموال ؟ كم ستدفع لي ؟
أبصر أبسالون تأججاً يشتعل داخل احداق ديفيد المتسعة ، أستمال نفسه ناحية الهدوء الداخلي أكثر كي يفلت فريسته عالقةً على شباك الموت في اللحظة المناسبة !!
أكمل مخاطباً أياه ، وذلك يستغيث إجابةً ترضيه ،
- المبلغ مقدماً سيكون .. أه ! بالحديث عن هذا .. ذكرتني ! كنت مسبقاً قد أرسلت الامر بجمعه في حقيبة كي يسلمّك أياها موظفي الخاص ، وهو بإنتظارك الآن داخل غرفة الضيوف
قاطعه بحذرٍ مستغرباً
- لماذا ؟ يمكنك أعطائي أياها بنفسك !
اخفض أبسالون صوته لكأنه يهمس له بسرٍ يخشى أن يتفشى أمام الملأ ، فتمتم بجديّة مبالغة ،
- وكيف سأعطيك أياه الآن وأنت صاحب هذه الامسية الكبيرة في حفلٍ كهذا ! تعلم أن هناك الكثير منهم قد يشاهد ما أتفقنا عليه ، لذا قررت أن يكون هذا الإتفاق سرياً لا يعمل عن خبره أحد
- آآه أجل أجل ! ، أتفهمك يا أخي !
وجعل أبسالون يتبسّم ليستنزف راحة الرجل ويذخر لنفسه الوقت ، وقال والضحكة تتبعه مازحاً .. مستخلصاً صبر ديفيد ليحرضه على المضي بلا إستكانة ،
- أتعلم أن موظفي ذاك يعاني من مشكلة في مثانته لذا تراه يقبل على دورة المياه كثيراً وفي أشد الأوقات أهمية ، أتمنى أن تتفهمه فهو مخلص دؤوب في عمله ، لذا إن لم تره داخل الغرفة ستجده هناك !!
قهقه ضاحكاً يعم كفاف راحة
- لا بأس بذلك ، لا تهتم لأني لست مستعجلاً ، ولكن أخبرني .. اهو متواجدٌ الآن في غرفة الضيوف ؟
- بالطبع ، أخبرته أن ينتظرك ريثما تنتهي الامسية
- الى ان تنتهي ! لا ،ههه لا داعي فأنا لست منشغلاً بشيء الآن ، لذا أستطيع الذهاب أليه !
خطفته بشاشة في وجهه ،
- حسناً اذاً ، أمضي لتستلم المبلغ فنعقد أول بنود الإتفاقية ، أما أنا فعلي العودة الى بعض زملاء العمل فهم على الأرجح بإنتظاري .. اعتذر بشدة !!
أومأ ديفيد رأسه مقابل بسمة تعطّش حاول كبحها ، وأستأذن مستديراً قاصداً غرفة الضيوف
أنجلى شبح ماكرٌ خط لمسات شرٍ أستوطن عيناه ، همس في سرّه ،
- عرجت الفريسة الى شباك العنكبوت لتلقى حتفها ..
بينما خطى مبتعداً عن الممر ، الذي بداخله سيكتمل سير كل شيء وفق ما خططه تماماً .. ويخلّف جثة كانت يوماً لرجل أعمال شهير أطفأ الجشع بصيرته ليحفر الى نفسه حفر التهلكة !!
يحفر برجليه خطاه على عجل ، يتقدم ناحية باب الغرفة .. ، لامعة عيناه ، يستشعر حرارة الأجواء ، ولم يأبه ! وأقدم قابضاً على الباب يفتحه بسرعة .. ويبعثر ناظريه على كل شبرٍ لعله يلحظ ذلك الموظف المعتوه ، كما يصفه في دواخله الطامعة ، أو الأشد أستحساناً إلى سجيته .. ان يرى الحقيبة فقط ليحملها بين ذراعيه .. !!
أوصد الباب مخلفاً صداه ، تذكر كلام صديقه أبسالون حين اخبره عن مرض موظفه على غفلة منه ، ليتردد صوت احرفه بين زوايا ذاكرته .. معيداً ،
(أتعلم أن موظفي ذاك يعاني من مشكلة في مثانته لذا تراه يقبل على دورة المياه كثيراً وفي أشد الأوقات أهمية ، أتمنى أن تتفهمه فهو مخلص دؤوب في عمله ، لذا إن لم تره داخل الغرفة ستجده هناك !!)
كشّر عن أنيابه ، ضاماً كفيّه لكأنهما يحتميان من بردٍ قرص أصابعه ليعمله بتبيانٍ أن المقصد الآن هناك ! ، الحقيبة معه أيضاً كي لا يسرقها من سيعبر ويجدها بلا حارس ، اجل مؤكد ذلك !
كان ما يتراود الى عقله مثل تلك الأفكار .. التي بها أحس بنفسه رفيعاً متذاكياً بفطنة دون أن يرهق فكره .. !
ولجأ الى بغيته ، ليفتح الباب ببطء .. وتطل أحداقه من ورائه مستكشفةً بصمت رهيب ، له وقع خفقان قلبه الذي بدى يضطرب في عمله لسبب مجهول .. !!
هو لم يعطي الامر ادنى ألتفافة ناحية شعوره الذي بدأ يتخبط واقعاً .. قافزاً ، يدور داخله .. فتستضيق نفسه !!
دفع الباب بكفٍ واحدة خاطرت بمجهودها أن تظهر شيئاً من الشجاعة مع وقع خطاه على الأرض الرخامية .. ،
وأستصاخت أذنه اليسرى خرير ماء متدفقٍ من أحدى الحمامات المصطفة على جانب واحد .. !
فاعتلته السعادة عندما خطفه إدراكه الصائب الاحمق إلى أمر مفاده أن الموظف المزعوم يفرغ مثانته داخل أحدى الحمامات .. !!
- هيي ! أيها الموظف ! أنا ألرئيس ديفيد أنطوان اوبيرت .. ، جأت كي أستلم المبلغ الذي أتفقنا عليه أنا و رئيسك ابسالون ، أقضي حاجتك بسرعة واخرج حالاً ، أسمعت ؟
وأصبح يناديه لسويعات حتى تقدّم وسط الحمام متوقفاً عن ندائه .. متوقفاً عن المشي .. ، يحصي بضعة دقائق خمنّها في رأسه تنقضي مدتها بخروج الشخص المنشود الذي جعل تنهداته تخرج متأففةً من ثقل الموقف .. !
ولم يمتلك إدراكاً حقيقياً يطرق رأسه الخاوي ولو بتنبيه ضئيل على أن شخصاً ما غامض واقفاً داخل أحدى الحمامات في وضعية أستعداد لإنقضاضته !!
لم يكن الباب مغلقاً عليه ، ولكنه مفتوح الى حد جزءٍ يستطيع فيه إطلاق رؤيته بعيناه السوداء الثاقبة !!
وفي لحظة مثيرة للشك ، وداخل زوبعة الصمت التي أبتلعت المكان .. لم يكن هناك سوى صدى خرير الماء الذي أنقطع فجائياً ليسثير عقل المستهدف ، ووقع الخطى السريعة التي هاجمته من ورائه .. !!،
في لمحة بصر !! .. شخصٌ ما ، أحاطت ذراعه عنقه ملتفةً من الخلف ! .. محكمةً مجرى التنفس لتوّلد أختناقاً فزعاً .. !!
تحسس عنق ديفيد المتعرّق قوة عضلية نابضة تجاثمت على صدره .. وأشتدت تلفظ فمه شهقات من دم .. !!
وجعل يحاول بجهد مؤلم أن يزحف بحدقتيه في محجريهما المتسّع فرط شيطان الوجل الذي أسره بأغلاله ، ضِعفَ الرهبة التي اطلت بإرتفاعٍ شاهق لتقذفه داخل متاهة من الحيرة.. عقله يستنبط عملاً بسرعة دورانية فرضت تحكّمها بجسمه السمين المرتعش ، وحدقتاه اللتان وصلتا في لحظتها عند أقصى منطقة تستطيع فيها بث موجات الرؤيا التي تهامدت أمام وقعها تتقلب ، وتتداخل مع بعضها .. مثيراً أمعائه الداخلية بردٍ عكسي .. !!
همسة واحدة كان قادراً على تحريرها من بين شفتيه ، يغمغم بها على وطئة جزعة ،
- مـ....مــ..ـن .. أنـ...ـت ؟
ورغم امله في العثور على شيء من الإجابة المرجوة ، وثقل أنفاسه الهابطة على سكون الحيطان .. وعلى شيء ما لربما كان بشراً .. لم يتفوه حتى بنفسٍ واحد ، وظلّ يعصر عظام عنقه لتتكثف أذرع الإختناق محتضنة أنفاسه .. حتى رئتيه .. !!
لم تصنت حاسته الى أي مدلولٍ يبرهن أن حركة ما وقعت فعلياً ، بعد إستشعاره لفوهة المسدس التي أصطكت برأسه !!
إزداد إتساع محجرا عيناه ، لكأنهما على وشك دوي تمزّق أطرافهما .. والتي بجوفهما تشعبّت عروقه الحمراء نافرةً تطلق العويل بدلاً من صوته الذي أخال انه بح متلاشياً مع إختناقاته الموشكة عبور الخطِّ الفاصل ما بين الحياة والموت .. !!
- سيدي أمرني أن أقتلك وأنثر أشلائك على مستوطن ديدانٍ تخرج من جحورها عند استنشاقها عبق نتانة الهياكل المتحللة ..كي تلتهمها
وقعت عباراته على قلبه كوقع نصل السيف قاطعاً عنق المجرم .. !
وأبى الرضوخ بوهنٍ يتوسع مداه لتضمحل قدرته وتمسي هباءً منثوراً أمام صلابة عضلات شابٍ كما أتضح بين نبرات صوته الرخيم .. !
فأخذ يجاهد إخراج صوته ، وأنساب من بين شفتاه الأنين كأنين محتضرٍ على شفى حفرةٍ من نار . !
يبتغي زفرة هواءٍ تنفخ رئتيه اللتان شارفتا على عدٍ تنازلي ينتهي بتوقفها .. !!
- لا ، أهدأ أكثر .. فمهما جاهدت لإستخراج نحيبك الصارخ لن يستمع له أحد ، فالكل منشغل في القاعة بالرقص الذي حددت ميعاده الآن ،
رمشت عيناه لحظةً ، أرتجفت أوصاله .. أحس بشفرات البرد الجارحة تخطف حرارة جسمه ،
- أنهم الآن يستمتعون بوقتهم ، ويتسائلون بين الفينة والاخرى عن خبر لصاحب هذا القصر الذي قد تأخر عن العودة أليهم ..
تكالبت عباراته كأهوالٍ تجرف بقايا وعيه داخل عقلٍ يلفظ آخر إدراكٍ له
سير الخطة تماشى مع التيار كالعادة ، وحانت اللحظة التي تنهي ما أبتدأه ..
فالضباب الذي حمل بطياته أسئلة كثيرة لا تملك الوقت للإجابة عنها ، أو على أقل تقدير .. تفسيرها ، قد تكوّن أمام رؤياه التي تعلّقت بالسقف ، وأخذت تتفاعل مع هلوسة العقل الذي أصابه الخرف بعد إنقطاع حبل رشده .. ،
فأصبح يقذف لهاثه كحيوانٍ ضامئ يتوسل أرتواء رشفة ماء زلال بارد تطفأ الجمر المتقد الذي علق بجوفه .. !!
وجعلت يهذي كهذيان المسكر من شرابٍ ما ، تتمدد معه شفتاه العريضتان عن ضحكة هستيرية جامدة متوقفة عن اتيان نشاطها .. !!
وعند الساعة العاشرة وواحدٌ وعشرون دقيقة .. زحف العقرب ، وأستوى بإتجاه رقمٍ زوجي اطلق ما بمكنونه خفاءً تحت وقع الموسيقى الصاخبة .. ، وإبتسامة المدعوين .. وبسمة أبسالون المنتصرة !
وحسمت النتيجة !
طلقة ، طلقتان .. بلا دوي !
وأنبثق شلال قرمزي أخترق مجرى الرصاص وأذنه اليمنى ، يتدفق قوياً ، ينتشر عبر حيز من الهواء ، يلفظ الدم القاني ملطخاً صفحة المرايا الضخمة المعلقة .. ورخام الأرضية الرطب ، وزي ألكسيوس الرسمي .. والذي به كان مستقيماً على قدميه ، جامداً .. يرمق الجزء المفضل لديه ، جزء المقطوعة الذي يحكي بصمت الأقلام .. وليل داجٍ أفتقد الوجدان بعزلة تسطّر لغة الضيآع .. لحن يستكين في إنصاته لصخبٍ مجلجل كان أشد من أن تحتويه نفسٌ بشرية .. تحيا بالروح .. !!
وهمد الجسد طريحاً على الأرض ، بارزة تقاسيم وجهه في رخوة جزعٍ فقدت قدرتها على التشكل ، فاره الفم ، جاحظ العينين ، تجويف شغر رأسه .. وقيحٌ يفرزه انفه ، وبها تعتلي حكاية خاتمتها ، لتولد بعدها أخرى .. حتى أجلٍ غير معلوم .. !
ويستمرون في الرقص مع أنسياب نغمات الموسيقى الرفيعة ، تملأ أرجاء القاعة ،
الأحاديث مستمرة .. والضحكات المختلطة السعيدة .. على مناسبة ، هي موت الرئيس بعد أعتلائه منصة المصقل ، التي قبضت على روحه .. وأخلته صريعاً على أرضية حمام الزائرين الذي يركن في أحدى زوايا قصره.. !
وهل كانت خطاباتهم تتفشى ما بينهم بإضطرابٍ سائلةً عن هوية الغائب ؟
إنما همساتهم تلك كانت تتناقل على ألسنتها وقوع آخر نصوص المسرحية .. التي شيعتها حفلة تصدح بنشيج الرثاء على الفاقد ، مستغنية بصراخ الأوبرا الثائر ، وهم يتابعون .. الرقص .. !
تجمدت عيناه مبعثرة النظرة .. ! ، أرتكزت ساقه ملتصقةَ بالأرض ، تتدفق بدمائها إهتزازات قاسية .. وقد بدت للناظر ذات لمعة لكأنها تفرز عرقاً ساخناً يقطر بغزارة كما يقطر بجوف رأسه حميم يجعل أعصابه المتصلبة سائلاً فوّاراً يغلي !، أي مشهد قد يكون ما يراه في وقته هذا .. ؟ أو أيّاً كان ما تصوّره سابقاً قبل خطاه .. حتميّ أشعاره ذلك بالتشوش فور دخوله الحماسيّ، فقط لأنه كان يدور في الأرجاء منقباً عن مالك القصر ، والده !!
قبل نصف ساعة من الزمن سأل والدته عنه ، لكنها أنشغلت بضيفاتها المأنقات ، لذا أرتجل بقدماه باحثاً كي لا ينصت إلى همسات القريبين منه تُنطَق من أفواههم بغرابة تقهقه كالإزدراء.. !
ثم ماذا بعد ؟ .. آه ! لابد أن آلة ذكرياته قد تعطلّت عن إرجاع شريط الأحداث الأخيرة ، ليس شيئاً أن لا يعي بإتصاله مع محيطه ذي الأبعاد التي أوشكت أن تستطيل ممتدة .. ولكن عن تصّور ما قد جال مسبباً الغثيان الشديد لتضطرب أمعائه .. على مرأى جثة والده المدماة ، إختراق دائري شق جمجمته المهشمة ، و فائض من الدماء الرطبة تحذق بجسده .. والآن ها هو ذا واقفٌ أكدّه الشلل عن إبداء حركة أمام موقفٍ وقع عليه كالصاعقة المميتة .. !!
- بابا !
لم يتردد صدى الإجابة علناً كالشواهد المنطقية التي أفرزت الواقع كالحلم الأسود في عيناه كما صدى نداءه الذي باغت الجماد المتنفس الواقف على مقربةٍ من رأس والده ، فلم يكن يصغي لإشارة تدلل على وجود بشرٍ معه .. لقد ظنّ فور دخوله أن الحمام خلا من حركة قدم وشغل شاغل حين سقط ناظريه على الجسد المطروح ، ولكن الأمر تناقض بهاجسه المفزع لمّا ضرب قلبه حائطاً من عضلاته مشيراً لشيء .. رهيب .. !!
وما كان سبب ذلك سوى صدى واحد لإرتداد زر المسدس المغلّف بالكيس النايلونيّ المدهن بالدم ،متخذاً وضعية الإطلاق الهجومي ، موجهاً امامه !!
أرتد رأس صغير والده الى مربض التهديد ، توسّعت حدقتاه .. عُقِدَ لسانه ، لم يفسّر عقله الصغير قبل إنفجاره بالدمع إجابات الوضع الصادم لمّا أستعلم أن والده ساقطٌ على أرضية الحمام والمجرم غادر المكان فور إرتكاب هذه الفعلة ، والآن ها قد أضيف صفٌ ثانٍ من حيرة طفلٍ في بدايات عمره سلبه الوجل كافة إدراكه وهو يبصر الفوهة التي ستجري بداخلها طلقة قد تؤدي بحياته الى الهلاك .. !!
- بابا ؟ بابا ؟ هل تسمعني ؟! .. ماذا حدث لك ؟ استفق أرجوك !!
أقترب ينحني صارخاً ، راجفاً وهو يهز أطراف أبيه .. !
أحمرت وجنتاه ، وأمسى يهل الدموع خائفاً من وطئة الصمت !!
- أنهض بابا ؟ الضيوف ينتظرونا منذ وقت طويــل !
الحمرة الصارخة التي لطخت أبيه والمرآة وذلك الواقف الذي لم يأبه لنحيبه ، قد لطخت كفّاه الصغيران وبذلته الغالية .. حتى صار المنظر يسقيه جرعات خوفٍ مضاعفة،
ثم أستبطئت عيناه حركاتها القافزة لتهتز عنوة ثم تتصلب .. وترتفع الى وجه ألكسيوس الشاحب !!
أخذته شهقة أبتلعت لهيثه للحظة ، جمد فيها مفزوعاً حين تمعن في السلاح الذي دهن شيء من الدم فوهته ، وراح ينكمش داخل زوبعة من الخوف .. ،
كان يبصر ملامحاً لم يسبق إن رأى مثيلها قط في حياته ، فقلبه يلتف على بعضه راهباً وجهاً خطّ هيئة شبحٍ .. كأنه متكئ بين زوايتي مخدعٍ مقفر .. غائصاً في العتمة .. يتراءى منه عينٌ صائحة لكأنها ستخترق خطوط الحياة ، وتنعدم من موتٍ تضحى بعده مولودة داخل لهيبٍ أسود .. !!
وبعد ذلك أصبح أسير فزعةٍ خاطفة أعتصرت مجرى تنفساته عندما أبصر عيناه .. التي بدتا كقطعتان أنتزعتا من رمادٍ كاحلٍ منسي وسط عاصفةٍ من الثلوج .. !
أكان ذلك هو التشبيه المناسب الذي بدى متناقضاً بين عباراته ؟ .. ام أنها كانت الدقيقة التي لحقت بها شوشرة عنيفة هاجمت اعصاب ذاكرته لينقطع عن الزمان و الوقت البطيء .. !
لم يكن يدري ، ضِعفَ الاحجيات التي نُطِقت على صوته الذي أستصاخه كفحيح أفعى سامة !
- كنت اتسائل عن الشيء المنغرس في عمق حيز من الثلوج .. صلباً معدنياً ، يقاوم لفحات الصعيق ..
ثم أخفض صوته ، و أكمل على ذات الوتيرة ،
- وقد قررت ان أدنو من رقاده لأقطع صحبة نومة أحلت عليه وجعلته كالذي أطفئت روحه بالإرتحال من مخرج هيكله ، وأمسى في سباتٍ كرقود الاموات ..
ولم أصدق توهماتي إلا بعد أن عانيت تفحصه ، وفي رؤياي اكتشفت انه قطعة عظامٍ متفحمة ، تعفنت بين الثلوج ، وأخترقها جذع متيبسٌ أعاق هجرتها الملتحقة ناحية مصير الروح ..
لقد أيقنتُ أن الهيكل غائب بلا عودة.. !
أنكمش الصغير في حالة إعياء .. ينتفض بفزع ، يتراجع زاحفاً الى الوراء .. كأنه يبتغي الخروج من سجنٍ أوصدت أبوابه المقفلة بلا مفاتيح ،
وأصطدم أثناء زحفه بباب أحدى الحمامات ..
- أخائف ؟
ضمّ ساقيه أليه .. وراح يحيط ذراعيه حولهما ووجهه يتصبب العرق ، تصطك أطرافه ببعضها !
بدى ألكسيوس ينصت الى صوت احتكاك أسنان الطفل ، ويرمقه بطرف عينيه على سكونٍ متكنّز ، حتى تحركت قدماه بإتجاه جسد الطفل الملتصق بالباب .. ،
وتراءى للغارق في وجله خطى ألكسيوس حاملاً سلاحه بكفّه .. مسنداً سبابته الملتفةً بالزناد ، حتى أتسعت عيناه وهو يرى جسده منتصباً قربه مباشرة .. يمد يده ليقبض على شعر رأسه من الخلف !
وجعل يستنجد محاولاً الصراخ باعلى ما يملك حتى تمزقت حباله الصوتية وتحسس وخزاً مؤلماً داخل حنجرته ..
عروقه نافرة ، عضلاته متشنجة ، يأن أنيناً صارخاً بينما أطرافه تعتلي الهواء بإيماءات سريعة متواصلة لكأنها ترجو الفرار وهي تتخبط ببعضها في الفراغ .. !!
لم تجدي محاولاته حتى عبثا ، وثغره الذي أمتد لأقصى زاوية وهو يواصل النحيب في بوحٍ يتعالى تارةً وينخفض تارةً أخرى
- ماما ساعديني .. ماما ..
نظر الى عينا ألكسيوس والدمع يغشيه ، شرع الاخير الى رفع سلاحه بتلقائية واضعاً فوهته بشدة ليرتد رأس الصغير الى الوراء .. منتفضاً ، يرقع عنقه ، يمد ساقيه ..
حتى .. آخر نبضة،
اخترقت رصاصة الموت ما بين عيناه العالقتان عند آخر متسّع ، ولفظ الدم لسويعات حين تحركت روحه من مضجعها وقابلته المنية شيطاناً صامتاً أنتزع حياة صغيرة ما كادت ان تضيء كشمعة حتى أنطفئت مُكرهةً في العتمة .. !
أنتشر سائل الدم من ثنايا حلقه على وجه ألكسيوس الذي اخذ يراقب .. ممسكاً جسد الطفل بلا إبداء ساكنٍ واحد ،
وأرتخى على كفّه .. تباطئت أنفاسه الشاخرة ، كان آخر صورة شهدها هي حدقتا ألكسيوس التي أبتلعت الظلمات بأسرها !!
وبها ، حُسمت المهمة ، وخطّت آخر ما فيها لتنتهي برمي الجثة الصغيرة على الأرض الرخامية بجوار جثة أبيه .. ليختلط دم الأثنان معاً .. يسيلان ببطء .. وكأنه بتلك الصورة المدماة تم إتصال باطني يحكي الحكاية ذاتها بهمسٍ خفي على تراقص القرمزي في بحيرة قانية ،
الأب قتل بطلقة في صدغه ، والإبن بطلقة في مقدمة رأسه
كلاهما ألتقيا عند صورة تقريبية متشابهة ، وكلاهما أرتحلا .. الى العالم الآخر ، على يد سفاحٍ دُرب حتى صار بالقتل هواية محببة أليه .. !!
كنت في غمرة التأمل الغريزيّ ، وعندما تسائلت ،
ماذا تراءى لذلك الصغير الواقف على عتبة باب الجريمة ..
ياترى .. ؟
( جزء من النص مفقود ! ) [السادس والعشرون من سبتمبر ،1998م ، العاشرة وأربعٌ وثلاثون دقيقة ، ليلاً]
تتسابق عيناه المتلبّثة بنظرة ناعسة إلى الطريق المعوشب الخارجيّ ، شاردة .. تحصي أعداد الشجيرات المتلاحقة التي توسّدت جوانب الشارع الذي بدى بلا نهاية تفرج عن توّهمات القلق الباطني ، وسرعة القطار قد جعلت من المنظر صوراً متحركة تمتلي بها الرؤيا ، ألتقطته من دوّامة نشاطٍ ذهني محض أداره بهبّة من رائحة الذكرى الخالدة لكأنها تتربع على محيط ذاكرته الصاخبة بعنادٍ غير معهود !
مستندٌ على المقعد المحاذي للنافذة ، بواسطة مرفقه ، يتنهد بخفاء كل ما مرّت مجموعة من الدقائق العصي نفاذها على عجلة ، لحظات تزحف فيها حدقتيه حيناً ملتقطةً مشهداً إستكشافياً يفسّر الوضع الصامت عند بقية المقاعد التي شغل بعضها ، ثم يتنفس عبق الأجواء المختلطة بمزيجٍ متناقض من روائح الأشخاص المشاركين له في ذات المقطورة ،
فيها رائحة دخان سيجارة متعلق في فم عجوز أشعث الشعر .. وعطرٍ ياسمين قويّ منبعث من معطف سيدة تتصفح مجلّة أزياء بينما تلوي شفتاها المصبوغتان بأحمرٍ شفاه صارخ ماضغة العلكة ، وطالبٌ عليه إمارات البلاهة .. يحدق في الفراغ ، ويدير وجهه الذي تزاحم ببقع حبوب تخالف لون جلده كل ألتفافتين أو ثلاث .. !
- أتتوجع من آلام صدرك .. ؟
دارت عيناه إتجاه الصوت ، صوت السيد الذي كان يربض ملاصقاً لمقعده ، صديق والده ، كان يبصره بإهتمام وذراعيه تتوسد على جانبي مقعده في راحة ،
أبتسم مصغياً ..
تفكّر الأول قبل أن ينطق مجيباً بعبارات بيّنة ،
- لم يسبق إن احببت سماع هذا ، من فضلك إن استطعت أبعد هذا الموضوع العابر جانباً وأخبرني عن الأهم ..
قهقه قليلاً على همسٍ خفيض ،
- أتحتضن عقلاً بالغاً داخل جسدك الطفوليّ ؟
قالها بإتساع ملمحٍ ذاهل .. !
تسابقت أحرف الكسيوس بوتيرة هادئة ، وبريق عيناه يتجلى تحت مصابيح المقطورة .. مشقاً الحيّز الفاصل بين وجهيهما ، موحيةً بنظرة ثاقبة أنجلت في مكنونها كبرياء أمراء ، وثقة تحمل خبر مسؤولية عاجلة .. !!
- كم تبقى عن ميعاد الوصول ؟ قبل ساعتين توقفنا عند محطة .. أخبرتني أن المنطقة تقع على أطراف مدينة أورليون ، وبالرغم من تجاوزنا قرى عديدة للوصول لازالت الوجهة مبهمة بعض الشيء .. !
- لما ؟
حدّق في الطريق عبر النافذة ، واكمل ،
- لا يستدعي الوصول إلى حدود المدينة هذا الطريق ، جدتي تسكن هناك وأنا معتاد على زيارتها مع والدي وأختي التي تصغرني بسنتان ، بالأضافة إلى أن المناطق التي تنتشر حول أورليون عن قرب ليست سوى تور وفيرزون ولومان ! ألا تعتقد أن الامر غريب حين اتعرف على هذه المناطق لاول مرة ..؟
- أتظن أن التجوّل في مساحات أورليون الشاسعة متاحة فقط لرحلة واحدة ؟
- لم أقصد هذا ، راقب الوقت جيّداً .. إن كنت معتمداً على أكثر من محطتين فإن هذا يعني أنك تقصد الآن مكاناً يبعد عن أورليون بعدة مناطق ، أي اما أن تكون كلير مون أو لافال ، أو رين ..
أنتصب ناظريه بلا طرف على وقع احتكاك العجلات بالسكة الحديدية ، مخرجاً كلماته ، رامقاً جمود وجهه ،
- إلا إذا كانت وجهتك أبعد من ذلك ، هل أنا محق سيدي ؟
وبادله السيد بعيناه حتى فرّ بهما إلى زاوية محايدة يركن فيها تنهداته ، ثم جال ببصره إلى ألكسيوس ليبتسم ،
و أخذ يضحك بخفة .. !
أستضاقت حدقتا ألكسيوس صامدةً تكدُّ بريبة وغرابة ،
- هل من خطب في كلماتي لتجعلك تضحك هكذا ؟!
أشار المعني بكفّه وسط قهقهته ،
- أنت !
وأردف بعد إنقضاء صمت المكان الذي سُرِقَ جراء متابعته بصوت منخفض في كتمان ضحكه ، قائلاً على مرحٍ إستثنائي ..
- أيها المشاكس ،و ما الذي جعلك تصل إلى هذا الإستنتاج ؟
جعل ألكسيوس يتمعن بصمتٍ ألجمته حيرة ،في حين قرّب السيد رأسه بجوار أحدى أذناه ، هامساً بأحرفٍ غامضة نفذت داخل الأول منتجةً شيئاً من الوجل الوهميّ .. !
- هل سمعت مرةً عن الكونت أبسالون أندريه صاحب منظمة ARG لإعانة الشؤون الإجتماعية ؟
- نعم
أكمل معلناً هويته ،
- انه أنا .