04-10-2014, 04:35 PM
|
|
. * *
{ السابعة وأربع وعشرون ، مساءً }
التلفاز الذي انتقاه والدي من متجر أنطونيو ،البائع السمين ، يجعلني أشعر كأني داخل محطة مذياع على البث المباشر .. رغم ذبذبة الصوت التي تنطلق قبل الصورة .. !!
وحتى وان نزلت غرفة الجلوس كي اكسب متنفساً جديداً يريح رؤيتي وعقلي ، أسلي نفسي بمشاهدة أي شيء كان ، أو الحديث المتقطع الذي لا يتجاوز الدقائق مع والدي حين يبلغ الكلام الى حنجرتي ثقلاً فيستعصى علي اخراجه .. من كسلٍ ، أو عدم رغبةٍ في نسج موضوع يتم النقاش حوله .. !
- تباً ، تعطّل مرة أخرى ، هذا الجهاز ، يا ألهي ! كم مرة علي ارجاعه الى التصليح !
أما نوباته تلك على جهاز التحكم بالتلفاز ، تبدأ حين يتعطّل عن العمل .. ! ولكن يبدو أنه ينزعج حين يستذكر كلمات والدتي عندما أخبرته بحيطةٍ وحذر : هذا النوع من الأجهزة ذو سعر رخيص لا ينفع ، فلا تهدر المال مقابل شرائه .
والآن تبدأ بعبارة والدي الافتتاحية أول نصوص المسرحية الشهيرة ، التي أشهدها كل يوم ، فتأتي أمي ضجرة بوجه متكّهم .. عليها امارات الضيق بيّنةً .. لتُعلِمَ للشاهد عليها أنها حقاً ستدخل في مشاجرة أو ستنطق بما يتفجر داخل صدرها كالنيران على هيئة تأنيبٍ قاسي ،
تقف أمام والدي الجالس على الأريكة ، بعد أن وضعت آنية ممتلئة ببعض الفواكة على الطاولة ،
- قلت لك حتى تجاوزت المرة العشرين .. هذا التلفاز مع هذا الجهاز يجب أن يرميا في حاوية القمامة لتتلاقفة القطط الشاردة كخردة عديمة النفع ! ، ألا يكفي جهازنا القديم بما فيه من أعطال .. وبدل أن تشتري شيئاً متطوراً ومستحدث ..
قاطعها بتعنيف بعد تنهيدة أكسبته شيئاً من التحكم بوتيرة اعصابه ، على ملمحه الغضب من جهة .. والانزعاج من ثرثرة والدتي ،
- حسناً حسناً ! سمعت هذا فيكفي ، وهل سيطلب حديثكِ الفارغ جهازاً جديداً .. غداً سأذهب في الصباح الباكر لشراء آخر
- ومن أي متجرٍ كالمعتاد سوى ذلك الأخرق السمين أنطونيو الذي ينصب على المارة بأسعاره الزهيدة على قطع مستعملة لا تساوي قرشاً واحداً
- يكفي ..
- أني أحذرك كي لا نُخدَع به مرة بعد مرة ولكنك لازلت عنيداً ..
وأطلق صرخة غضب خرجت عن ايطار صبره النافذ ،
- قلت يكفي ! .. غداً سأشتريه من متجر آخر ، أنتهينا !
فرمقته بتلك النظرة المستشيطة المعبّرة عن انفعالها وعدم قدرها على اطالة الحديث ، ثم استدارت بتوترٍ بارزٍ.. !
و من هنا يمكنني القول أني الضيفة الوحيدة التي دُعيَت الى هذا العرض القصير ، فيه لُمَّ جزء بسيط عن خلفية الأبوين في المنزل ، من ناحيتي فقد تقبلّته حتى أصبح روتينياً ، بدايته ونهايته هي ذاتها الغير مختومة بحلٍ أوسط .. !
ولكني دائماً أبصر في والدي مقداراً من العقلانية والحكمة أكبر من حجمها لدى والدتي ، ولولا أموره الخاصة بالعمل التي تثير ارهاقه وضيقه فأني أخال أنه سيحمل هدوءً أكثر مما يحمله الآن ، ولكن رغم هذا .. فوالدتي تفلت أعصابها بأية لحظة ، وتولّد استفزازاً للمرء حين تواصل حديثها بلا أهمية سوى ابتغاء لاخراج ما تود اخراجه من كلمات .. حادة .. أو جارحة ، وتأنيب الواقف أمامها وكأنه ليس بشخصٍ ذو عقلٍ يستطيع التفكير والادراك .. !!
ومن نطقة النهاية يأتي دوري ، وعلي اطاعة الأوامر راغبة أو مرغمة ،
حين تأتي نبرة صوتها بعصبية اتجاهي وهي للتو خرجت من المشاحنة ، وترغب بألقاء بعض اللوم على أي شيء تراه لكنها تحاول اختزانه ،
- ميراجين ، قومي وأذهبي لشراء ما نحتاجه في هذه القائمة .
وتهديني أياها بعصبية مع المحفظة ، ورقة صغيرة مطوية تحتوي المكتوب من اسماء المستلزمات المنزلية التي نستهلكها في كل الاوقات ، فاستلمتها بهدوء وخطوت حتى الباب ، لألتقط معطفي الأرجواني من علاقة الملابس ، وأُخرِجَ حذائي الجلدي الأسود ، أرتديته .. وهممت بالمغادرة .. ! ،،
داخل سكون الطرقات ، تردد صدى إرتطام حذائي الجلدي على الرصيف الرطب ، خطاي بطيئة ،كفاي مخبآن داخل جيوب المعطف الذي يقاوم جاهداً صد لسعات البرد عن أجزائي المتهاوية ، لكني لأرغب بتخبئة أنفي داخل قماش قطني دافئ بسبب قرصات الهواء البارد أكثر من كفّاي .. !! ، فجربت انزال رأسي حتى ياقتي القطنية .
السماء مكتظة بالغيم الرمادي، والأرض أحتفظت ببقايا الثلوج على بعض الأمكنة المغلقة ، في الأزقة ، وأسقف بعض البنايات والمنازل ، وبالرغم توقف هطوله اخيراً الا أن هذه الاجواء القارصة ماهي الا بداية لأوج شتاء فرنسا المثلج كالصعيق .. !
المارة يتجولون في الأرجاء ، هنا و هناك .. ، ثمة سيدات الطبقة الراقية يتسوّقن وبجعبتهن مجموعة من الاكياس المنوعة ، على طقطقة الكعب العالي تخطو كل واحدة منهنّ على جانب من الرصيف في عجلٍ مبالغ .. فحتى بلوغ التاسعة مساءً تُغلق أكثرية المتاجر المشهورة .. !
وبعض المتشردين المتناثرين بين الأزقة وقرب الحيطان ، يتريثون الفرصة الذهبية للامساك بحقيبة ممتلئة بالنقود عن قصد ، ثم الهرب بعيداً للأستفادة منها بشكل كليّ .. !!
والبقية يتوزعون ،عندما آتي مصادفة بمحاذاة أحدى نوافذ المطاعم الزجاجية وأنا أمشي ، أبصر الطاولات التي ضمت مجموعات متفاوتة من الأشخاص في وليمة عشاء .. أمسية ، أو دعوة .. أما البقية يفضّل تناول وجبته الصغيرة بشكل فردي دون مشاركة أحد ، وهذا ما أفضله أنا .. لكن دون المكوث في القسم العام .. !
يهيّأ الي من قسماتهم الشرهة أن الطعام مهما نفذ من اطباق عدة ، سيهضم الذي بداخلهم في غضون ثوانٍ ليطالبون بالمزيد .. حتى التخمة !
الشيء المفضل الذي امارسه في الطرقات عند أداء شيء كالشراء ، هو تفسير نطاق الوجوه أمامي في عنفوانها .. لأكتشف ذات الاجابة الناقصة حين أرى جوهر الروح المصطنع يصاغ على هيئة قسمات لوّثت من صفائه ، النظر الى وجه رجل ضاحك مع رفيقه وهما في أوج حديثهما الشيّق ..و لاتزال عيناه ترمقه بمقتٍ لا يُرى بالبصيرة المجردة ، وتلك السيّدة التي مسحت على رأس الصغيرة التائهة .. ثم أبتسمت بعطف أليها لتبادلها الطفلة ابتسامة اهداءً ممتناً لأواصلها الى غايتها الضائعة ، دون تيقنها بانها ترمقها باستصغار لمظهر ثيابها البالية .. !! ، لانها يتيمة تمضي عمرها في ميتم صغير متهالك ، وهاهي تدخل عبر بابه الخشبي المهترئ بلا علمٍ لما انجلى على قسمات الأخرى التي كشفت صورة حاقدٍ.. متعالٍ على من هم أقل شئناً ، لأجل انها من طبقة رفيعة !!
- يال للقذارة ..
همستها باشمئزاز وهي ترفع طرف ثوبها ، واستدارت راحلةً .. !
يكسبني هذا الزمن الجامد عند قطع المسافة من المنزل الى المتجر صورة من معاني البشر خلاف ما يجري على ملمحهم الزائف المزدحم بأجمل النوايا المصطنعة ، بغية المطامع الزائلة ! .. .. ربما أرى فيها ذات المنظر الليلي الذي أراه من خلال الشرفة ، ولكن عند هذه اللحظة .. مختلفة ، تمكنني من سماع أصواتهم المختلطة عن كثب ، ودقة قسماتهم البيّنة ، فتمسي تعابيرهم مهما كانت ، معلومة الهويّة.. !
وبعد انقضاء ما اراه في شخص ، أرى غيره ، وخلفه الحجب الغير مرئي الذي يناقض تصرفاتهم البهيجة ، .. زيف الكلام والخُلُق ، وتلاعب الابتسامات .. حسن التعامل ، وعين متربصة .. وأخرى حاقدة .. ! ، فيها يتلاشى من استقراري الداخلي ..ويبعث الريبة مغلفة نفسي .. مكثفة من صلابة قوقعتي الحامية ، وراء كل ابتسامة ما لا يبصره الناظرون ، على أرض وطئتها جنايا الكثيرين .. ولازالت مستورة بفخر .. !!
طرفت عيني الى السماء ، امسيت متاملة في لوحتها الفنية المدلهمة، تبدو وكأنها تحيك صوراً ، بمجمل الألوان المعبّرة عن الوحدة الموحشة ، والظلمات السفلية ..و خفايا تتوارى بستار الليل ، صراخات تسبح في الكون على مسافات ، لست عالمة بما تخفي هذه الدقائق ، ماذا يجري .. وما الذي انقضى ، .. هل من شخص قد مات وغيره قد فُتح كتابه على بداية مولودة ، وهل هناك من خَسر أغلى ما يملك نهباً بجشع في غمضة عين ؟ ، في احيان تتشح بالسواد .. وأحيانا أُخر تراها صافية يحلّق بجوفها اسراب الحمام الأبيض ، ولكن ليس بمنظارها ما يعكس لوحة الأرض .. فهي قد أنفصلت منذ زمن بعيد عن السطح .. كي لا تسير على طرقها القدسية أقدام بني البشر .. السوداء .. !
دفعت الباب بيدي .. ودخلت المتجر ،
بدى شبه خاوي .. ليس بداخله سوى قلّة أقلية من الزبائن ، فالتقط أحدى السلال الصغيرة وأتجهت الى ثلاجة زجاجات الحليب ، فتحتها لتلفحني بصفعة هواء بارد لست مستعدة لها، على كلٍ .. اقتنيت ثلاث زجاجات وأنا أرمق صورة البقرة الضاحكة التي وضعت على الملطق الأعلاني ، ثم أغلقتها.
أخذت ثلاث حبات بندورة ، وضممت اليها نوعين من الخضار الورقية ، .. يجدر بي القاء نظرة سريعة على القائمة كي لا أنسى شيئاً .
فتحتها لأرى .. ، جبنة كاملة الدسم .. أوه يا الحظ ! لازالت والدتي مصرّة على تناولها ، رغم أرتفاع ضغط دمها ونصح الطبيب لها بتناول الأجبان قليلة الدسومة .. لو رغبت باختيار الأفضل ، يخيل الي صورتها وهي ترمقني مغتاضة .. من الأفضل ان لا أجرب كالمرة الماضية .. !
بقي الزبدة ، علبة شاي ، خبز ، و .. عسل
بعد مضي القليل من الوقت ، انتهيت من جمع كل ما طُلِب ، ثم دنوت الى زاوية البائع للحساب ،.. وضعت السلة على الطاولة فالتقطها على الفور بطريقة عملية ليصف المشتريات واحدة تلو الاخرى .. !
بقيت أنتظر ريثما ينتهي .. وأنا أنصت الى صوت الآلة ، .. يتبع،
. |
__________________ THINKING IN OWN SPACE BETWEEN PIECES FROM ME [ LOST BETWEEN MIRAGE AND REALITY ] BLOG#NOTE#ART#NOVEL# |