01-01-2015, 10:48 PM
|
|
البــــــــــــــ الثالث ــارت تعرف مدينتنا الصغيرة في الشهر السادس من كل عام بعض النشاط و الحيوية : اذ يأتي العديد من السفن و ترسو في المرفأ ، و تطوف وجوه غريبة في الشوارع . و كنتُ احبُّ التجوال على الطول الرصيف أمام المطاعم و المشارب و الفنادق متفحصاً وجوه البحارة و السواح الذين جاءوا من وراء البحار ، جالسين في الظل يشربوا البيرة على جرعات صغيرة ، التي تقدم لهم في كؤوس خاصة .كنتُ أتنزه مرة ، فجذب انتباهي رجلا جالساً أمام مقهى بصورة خاصة . كان جالساً على كرسيه لا يتحرك ، مكتف الذراعين على صدره ، متدثراً بمعطف طويل أسود ، واضعاً على رأسه قبعة من قش ، و على جبينه تسقط خصلة شعر خفيفة متجعدة تكاد تصل الى مستوى الأنف ، تقبض شفتاه على غليون قصير . كان يبدو هو لي بهيئة و ملامحه و لونه الأسمر المصفر معروفاً إلى حد لم أتمكن إلا ان أقف أمامه و أتساءل من يكون هو و أين أنى كنت رأيته . و حين شعر هو بنظري يثبتُ بالحاح عليه رفع عينيه القاتمتين النافذتين .. فخنقت أنا صرخة .
كان ذلك الرجل والدي الآخر ، الذي كنت أبحث عنه في الحلم!
لم يكون من الممكن ان أخطيء ، إذ ان التشابه بينهما كان حقاً كبيراً . كان معطفه الذي يرتديه يذكر ، بلونه و بثناياه ، المباذل الذي كان ( والد الحلم ) قد ظهر لي فيه .
لا .. فالوقت نهار ، و حركة المارة شديدة ، و الشمس ساطعة في سماء زرقاء .. و هذا الشخص ليس هو بشبح ، إنما انسان مثلي .
و بحثت عن طاولة إلى جانبه ، و جلست . و طلبت قدح بيرة و صحناً ، و رحت أنظر و أنتظر .
اخبأت وجهي وراء الجريدة كي أتمكن من مراقبة جاري الغريب . كان الرجل لا يكاد يتحرك ، إنما كان يرفع رأسه ببطء من تارة إلى أخرى ، و يتركها تتدلى فوق صدره .. كنت انظر اليه باستمرار ، و كنت أشربه بعيني .. و كان يخيل إلي أني كنت مخدوعاً بخيالي ، و أن ليس ثمة من تشابه حقيقي بين هذا الشخص و بين والدي الآخر .. لكن لا ، كان يكفي أن يأتي بحركة أو أن يلفت رأسه لفتة خفيفة كي أعود فأعرفه من جديد ، و أن أخنق صرخة انذهال .
و انتهى الحال به الى أن رأي فضولي و نظر إلي بدهشة أولاً ، ثم بغضب و تظاهر بالنهوض و ترك عصاه التي يتوكأ عليها تسقط على الأرض . أسرعت و التقطتها و ناولته إياها و قلبي يكاد تتقطع نياطه .
شكرني هو بابتسامة مصطنعة ، و قرب وجهه من وجهي ، و رفع حاجبيه و فتح فاه مشدوهاً كأنه شاهد شيئاً ملبكاً:
- أنت مهذب جداً يا شاب ، و التهذيب خصلة نادرة في أيامنا هذه . إسمح لي أن أهنئك : إني أرى أنك تلقيت تربية ممتازة .
لم أعد أدري بماذا أجبته ، إلا أن البرودة ذابت بيننا . و علمتُ أنه مواطن ، عاد أخيراً من أمريكا حيث قضى أعواماً طوالاً ، و أن في نيّته العودة إليها . و أخبرني أنه بارون دو .. نسيت اللقب ، بل أني لم أسمعه بوضوح وقتذاك . و أنهى كلامه - كحال (( أبي الآخر بهمهمة لا تبين .
و أفضي البارون عن رغبته في معرفة إسمي .. و حين سمع باسمي بدا على وجهه تعبير دهشي عظيم .
ثم سألني إن كنت أعيش في هذه المدينة منذ مدة طويلة ، و مع من أعيش . فأجبته بأني أعيش مع أمي .
- لقد مات أبي منذ زمن بعيد .
و سألني عن اسم أمي . و انفجر بضحكة مرتبكة ،سرعان ما اعتذر عليها و هو يشرح لي أنها عادة أمريكية يجب ألا أعيرها قيمة .
وأنهه و منحيث العموم غريب الأطوار . وقبل أن نفترق عبر عن الرغبة في معرفة مكان سكناي . فأعطيته عنواني
في أمــــــــــــان الله |
__________________ |