الفصل الثالث
~ ~ ~ ~ ~
تنهَّدت الشّمس كَسِيرةً , تنوءُ أشعَّتها بأوجاع هذه الدّنيا ...
نهض أوك متثاقلًا مِن على الكنبة الوحيدة في غرفة المعيشة, و التي تصبح ليلًا غرفةَ نومه . سار على رؤوس أصابعه و كأس ماءٍ في يده, ليطلّ على ذاك المقيَّد في حجرة النّوم . تأمّله مُلقًى على ظهره بذراعين مفرودتَين, كلّ منهما مكبَّلةُ المعصمِ بقيد
معدنيّ يتّصل بالسّلسلة ذاتها التي أحاطت سِفل السّرير...
كان هذا اقتراح زاك بعد أن أفاق من غيبوبة تلتْ تناولَه الدّواء قبل موعده , و قد تمّ التّنفيذ من قبل الممرّضين بعد موافقة الطّبيب الذي حضر بناءً على اتّصال أوك. لَم يعترض الأخير مدركًا أنّه الحلّ الوحيد لثَنْي الطّبيب عن نقل زاك إلى مستشفى الأعصاب , حيث يودَعُ بقسمٍ يُعنى بالحالاتِ الخطِرة !
ركّز أوك بالجفنَين المُطبقَينِ بتّصلُّب لاعنًا أباه في سرّه , بينما وضع الكأس بجانب عبوة الحبوب على المنضدة ليفكَّ القيود بمنتهى الحذر ,مانعًا نفسه من أيّ حركة أخرى , فتدليك المعصم المزرَقّ أو التّربيت على الكتف الخائر قد يوقظ توأمه الذي شاطَرَهُ السَّهرَ حتّى كَلَّ اللوَبانَ في فراشه و نام كقتيلٍ قُبَيل الفجر .
سمع نقراتٍ خفيفة على الباب فانسلّ سريعًا ليفتح , و إذا به يواجَهُ بالشّعر الأبنوسيّ الأجعَد و العيون التي نافسَتِ السّماء زُرقةً ...
امرأةٌ لَم يقابلها مِن سنين ...ولم يحمل لها اشتياقًا .
لَم تكُن لتبدوَ مختلفة عن الصّورة الوحيدة لها عنده , لولا تجاعيد بشرتها المرسومة بريشة الأربعين , و ملابسها النّظيفة البسيطة علامةَ حالٍ أفضلَ ممّا كانت عليه في الماضي.
-زاك!
هتفتْ مستبشرةً و قلبها يرفرفُ لرؤيته واقفًا و بخير , مالبثتْ أن تنبّهَت إلى اتّجاه شوكات شعره لأعلى قليلًا لا للأسفل ,و إلى نظراتِه التي يشعّ في سماواتها انبِثاقُ صباح صيفيّ لا هدوء نهارٍ شتائيّ ...
تفاصيل صغيرة لن تلحظَها على التّوائم إلّا أعيُن أمّهاتهم
-بَل أوك!
تركها تعانقه , و استطاع أن يبادلها كمُجاملة أحسّت بها فتباعدت قليلًا علّها تكبَحُ جِماح نبضاتها أمام رؤيته وجهًا لوجه بعد انفصال طال قُرابة عشر سنوات . داعبتْ وجنته المتصلّبة هامسة بلهفة:
- أعلم أنّك نافِرٌ منّي...
-نافر فقط؟
نتر بحدّة خافتة , مخافة إرعابِ أخيه و حتّى الجيران لو ترك العنان لسخطه المكتوم,
متذكّرًا توبيخَ الطّبيب على تركِ أخيه عُرضة للانفعال الشّديد...
كيف سيبعده عن الضّغوط ؟! فأبوه البارحة و الآن أمّه!
-عزيزي...أعطِني فرصة لكَي...-
قاطعها بوَشوَشة حازمة و سبّابته أمام شفتَيه:
- اخفضي صوتك فهنالك مَن يحتاج للنّوم بعد ليلة عَصيبة ! أم أنّك و " براد " متّفقان على جعله يعاني بالتّناوُب؟!
- والدك كان هنا إذًا؟ أُبلِغتُ عن تدهور وضع زاك من مكتب الشّؤون ... الآن أعرف السّبب .
بمرارةٍ تمتمتْ فلَم يعلّق حتّى سألته -بعد جولة بسيطة لمقلتيها حول المكان :
- أخبِرتُ عن تناوله جرعةً دوائيّة قبل وقتها, فكيف حاله؟ وماذا عنك؟
أهمل الكلامَ عن نفسه بقوله:
- لست متأكّدًا, فقد نصحني الطّبيب بتركه وحيدًا في حجرته , لذا لَم أرَه إلّا بعد أن استسلم للنّوم. أنتظرُ استيقاظه كَي يتناول الجرعة الصّباحيّة و بهذا يعود لنظامه المعتاد .
أصغت بقلبٍ يعتصر, متخيّلة كيف مضت ليلة الأمس على ولدَيها .عادت تسأل برقّة :
- ماذا عنك أنت ,أوك؟
-آها ...مهتمّة جدًّا؟
باهتًا ردَّ فحاولت :
- طبعًا ...أنت وزاك كلّ ما أملك وأنا...-
مجدَّدًا بتر حديثها :
- و أنت ِ فرّطتِ بنا ...-
غمغمتْ :
- هل ستستمرّ بمقاطعتي كلّما حاولت شرحَ ال...-
-مالفائدة ؟لن أصدّق كلمة مِن...-
- أعلم أنّ عجوز النّحس هو مَن....
-لا علاقةَ لجدّي بفشلكِ مع ابنه الغبيّ , على الأقل جدّي احتواني ,ماذا قدّمتِ لي أنتِ؟ الانفصال عن أخي قسرًا ؟! ماذا قدّمتِ لزاك؟ جدّي لم تسمح أموره الماليّة بضمّه معي , و لطالما كان عاطفيًّا أكثر حتّى ممّا ينبغي لطفل! لَم تكُن موظّفة الشّؤون لتستطيع إبعاده عنكِ على أيّ حال...إلى أن تركتِه بنفسك!كيف لكِ أن...
كلّ ما اعتمل في نفسه أوجعها فدافعت باهتزاز :
- لكن تبًّا !سحقًا !الأمر لَم يكن خطأي وحدي! لو تركتني فقط أشرح...-
بعد كلّ المقاطعات و التّصاعدِ الهامس بينهما؛ انفجر أوك - المتوازن عادة - و راح يفحّ متأجّجًا منتفخ الأَوداج قدّاحَ العينين:
-حاولَ زاك معي سابقًا لكنّني رجوته ألّا يدافع عنك ,فتفهَّم و احتفظ بصمته. لِم لا تتعلّمين شيئًا منه ,"كلوديا"؟ !يا إلهي! كم أكره مَن لا يعرفون متى يخرسون!
هسّت باسمهِ مستعِرَةً هي الأخرى , شابكةً يديها لئلّا تصفعه فتتحوّل إلى "براد" آخر , يعميه جنونه فلايرى المقابلَ بشرًا أمامه!
بعد لحظة لهاثٍ تشاركاها ردّدت بنبرة خفيضة يشوبها كبرياء متزعزِع:
- لن أطالبك بالتزام الأدب ولا بالتّوقّف عن مناداتنا باسمَينا, فنحن حقًّا لا نستحقّ الأبوّة و الأمومة.كما لن أتوسّل إليك أن تستمع , نعم سأتعلّم فنّ الصّمت من زاك !فقط تذكّر شيئًا...الكلمة الجارحة لا يمكن استردادها بعد أن تُلفَظ...أنت إنسان سويّ , تُحاسَبُ على انفعالك...حاول ألّا تتكلّم منذ الآن إلّا بعد زوال غضبك.
أتاهُ صوت زاك كجرس الإنقاذ حين ناداه بضعف, فتركها فورًا و اندفع يلبي :
-أخي! كيف أنت؟
نهض زاك متكاسلا , و تبسّم أمام الاستنفار الواضح
- بخير. بإمكانك أن تطمئنّ فقد تناولت جرعة الصّباح
بهذا تمتم مشيرًا إلى كأس الماء النّاقص , فاسترخى أوك وهو يسأله:
-مالذي أيقظك باكرًا؟
-سمعت أصواتًا مبهمة خافتة ...لا أدري ...شِجار؟!
عندها سُمِع صوت الباب يُغلَق, فحاول أوك تمييعَ الأمر بقوله:
- سأقتلك إن فعلتَ شيئًا هيستيريًّا كهذا مستقبلًا . الدّواء في وقته و انتهى!
رفع زاك حاجبه بشكٍّ متكتّفًا , بينما تجاهله أوك وهو يأمر بخفّة:
- حضّر الفطور متى شئت ودلّلني كما أستحقّ بما أنّني في إجازة من عملي لليوم. أيقظني حين تنتهي.
-أكانت أمّي؟
باغتَه باختصار فالتفتَ رابط الجأش كما هو معروف عنه :
- نعم ,حسنًا؟!و لا تبدأ ب حديث"مسكينة , ضحيّة مثلنا" فلن أقتنع و قد أغضبك ,في حين يُفتَرض بي إبعادك عن التوتّر أو ما شابه.
-إذًا جِد شيئًا تغلق به فمك و نَمْ , أعلم أنّك قضيت الليل قلقًا. سأحضّر الفطور فيما بعد.
رغم أنّه تمكّن من الظّهور اعتياديًّا مثل أوك , إلّا أنّ الحزن تماوَج ناعمًا في عينيه فردّد الأخ المُحِبّ بتعاطف:
- سأستلقي . افعلِ الشّيء نفسَه , فقد عانَيت أكثر منّي.
هزّ رأسه بالموافقة و عاد يتمدّد على سريره تاركًا توأمه يمضي, متمنّيًا لو كان من الممكن أن يصغي إليه, و يتوقّف عن الحنق تجاه والدته.
اعترف زاك لنفسه أنّه كان غاضبًا منها بدوره, لكنّه استطاعَ اغتفار أخطائها و ضعفها, عكس أوك الذي أُبعِد عن الأجواء الفظيعة, فلَم يكن موجودًا ليشهد كلّ معاناة أمّه التي كان آخرها إجهاض طفلتها بسبب دفعة وحشيّة من أبيه أودَت بها على الأرض بعنف !
أمّا هو , فقد عاش التّفاصيل ألمًا بألم ...حُرقةً بحرقة...إلى أن وجد نفسه في ملجأ لتبنّي الأطفال , بعد أن هربت أمّه من المشفى ولَم تعُد!
شدّ بقبضتيه على الغطاء مسترجعًا تفاصيل يصعب تناسيها ... أشباح غافية في أعماقه , تيقّظت لمجيء أمّه...
راح يتقلّب كمحاولةٍ بائسة للضّياع في عوالِم الوَسَن الرّطبة الذيذة , علّه يهرب من الذّكريات التي حامت من حوله بلا تسلسل أو تناسق , بلا هوادة ولا شفقة...
مشاعره حين فهم رحيل والدته التي كثيرًا ما بذل جهده ليحولَ بجسده الصّغير بينها وبين عنف والده , فترة بقائه لدى مُتَبنّية ثلاثينيّة عزباء لا خبرة لها بنفسيّة طفل خذله أبوه , هجرته أمّه و انفصل عن توأمه...
شحنات الغيظ و الكُره و النّقمة على أبيه , مكتب الشّؤون , مركز التّبنّي , المرأة الثّلاثينيّة....
نفثَ أنفاسًا مريرة مغطّيًا رأسه بالوسادة و الأشباح تحوم حوله...أبناء الجيران في المنطقة الرّاقية , المتبنّية بابتساماتها الأنانيّة...الحوض الجميل الذي حطّمه يومًا , وراح يرقب السّمكات بتشفٍّ و هنّ ينتفضن من بين حطام الزّجاج كانتفاضه كلّما ربّت المعلّم على كتفه , رفضه لإمساك يد أيّ من أصدقاائه...
كلّها أشياء تُصَعّد الغضب , آخرها هو آخر محاولات المتبنّية معه قبل مراجعة الأطبّاء النّفسيين الهَمَج , حيث جلست مقابله تحاول مناقشته عن العدائيّة في تصرّفاته...
كان أنْ سألته أخيرًا بيأس -بعد أن تملّص من بين ذراعيها- عمّ يريده بالضّبط ,فأجاب بنفس يأسها : "أمّي"
راحت كلمات تلك الممرأة تنخر رأسه بلا هوادة
"لكنّها تركتك . تخلّت عنك! هي لا تحبّك"
جلس كالمجفل و رمى المنضدة تنفيسًا عمّا اعتمل في جوارحه ... اتّكأ للخلف بإرهاق و رأسه للسّماء في تضرّع صامت ,غير منتبهٍ إلى زاك الذي أطلّ عليه بحركة نسيميّة , ثمّ انسلَّ خارجًا بعد أن تركَ على الثّلّاجة ملاحظة بكونه لَم يستطع النّوم فخرج يتمشّى,و بطبيعة الحال لَم يذكر شيئًا عن وجهته.
|
فوجئ الموظّفون و المُراجعون في إدارة شؤون المواطنين بفاحمِ الشّعر يقتحم المكان بشراسة , متّجِهًا إلى مكتب معيّن , فتح بابه بعنف ونترَ:
-أنت المسؤول عن ملفّ زاكوري ينغمان ؟
ردّ رجل طاعنٌ في السّن من خلف طاولته وقد أدرك هويّته:
- لا بدّ أنّك السّيد أوكتيفيان ينغمان. بمَ أخدمك؟
تقدّم أوك بخطوات هجوميّة , و طَبّ على الطّاولة بينهما مُزمجرًا:
-مَن سمحَ لك بإخبار كلوديا أيّ معلومات عنه أيّها ال...
صراخه و الشّتائم التي راح يبصقها تباعًا استدعت رجل أمنٍ ضخمًا معضّلا , قبض على ذراعيّ أوك من الخلف وهو يسأل عمّ يجري, لم يعبأ به أوك
بل استمرّ يتصاعد رغم تقييده :
-لا تخبر تلك المجرمة شيئًا عن أخي بعد الآن!أنتَ لَم ترَ ما أصابه حين أتت . ألا تفهم أنّه مريض نفسيّ ؟!و أنّها آذته أيضًا مثل براد ؟! لمَ تحترمونها كثيرًا؟؟هي ليست بريئة !عاملوها كما تعاملون ذلك المعتوه !
هتفَ موظّف الأمن من خلفه:
- سيّدي . هل أتخذ الإجراءات اللازمة؟
بما أنّ تلكَ الإجراءات قد تعني احتجاز أوك , فقد اعترض العجوز الذي كان صامتًا طوال الوقت:
- هذا الشّابّ مسؤول حاليًّا عن الإعالة في بيته. لا تتّخذْ أيّ إجراء بحقّه
-أترى لطفَ السّيد ؟ اهدأ إذًا واعتذر .
بما أنّ أوك يفهم أنّ رجال الأمن لا يُعبث معهم , فقد سحب نفسًا عميقه و زفره بضيقٍ مِن نفسه كيف وضعتْهُ في موقف كهذا.
- آسف. قلّة النّوم أثّرت على أعصابي ...
صرف الموظّفُ العجوز ذلك الضَّخمَ بكياسة طالبًا إغلاق الباب خلفه.
-اجلس
ببساطة قال للشّابّ الذي أبَى فلَم يُبالِ به و قفز لصلب الموضوع :
- و إذًا , أستخلصُ مِن كلّ الفوضى التي اختلقتَها رفضك إعطاءِ السّيّدة كلوديا ينغمان أيّ معلوماتٍ تخصّ شقيقك ...-
-و تخصّني أيضًا!
تابع حديثه ببرود كأنّه لَم يسمع :
- ... و اعتباركَ إيّاها تمامًا كالمدعو براد ينغمان . طبعًا كنتَ لتطرح ذلك بأسلوب حضاريّ ,مع ذلك...
-أذكر أنّني اعتذرت .
أهمل كلاهما أنّ اعتذاره زائف , فاسترسَل الموظّف كمَن لَم يُقاطَع توًّا:
- ... أتفهّم دافعكَ , فأنت تهتمّ كثيرًا لأخيك. كما ترى لَم أسمح أن تُمَسَّ بأذى.
سكتَ منتظرًا , فقال أوك بامتعاض :
- آها , يبدو أنّ عليّ أن أشكرك....شكرًا
بذات الامتعاض ردّ:
-فقط تذكّر أنّ رجل الأمن لن يصغي إليّ في المرّة القادمة.
- لن تكون هنالك مرّة قادمة , فلستُ المريض النّفسيّ هنا,و أعرف كيف أتحكّم بأعصابي , كلّ ما هنالك أنّني لَم أنَم ليلة الأمس . الآن , ماهو ردّك على اعتراضي؟
كان أسلوبه هذه المرّة متوازنًا عمليًّا وقد تمكّن من استرداد سيطرته روَيدًا , فردّ الموظّف وقد شعر أنّ باب التّفاهُم معه قد فُتح أخيرًا:
- أعتذرُ عن عدم الاستجابة إلى طلبك بإقصاء أمّك عن زاكوري , كونه لَم يمانع وصولَ معلوماته إليها , و الطّبيب لَم يرَ ضَيْرًا في ذلك طالما لا لقاء بينهما,
الأمر الذي أخلّتْ به كما قلتَ آنفًا. سيتمّ تنبيهها .و أمّا عنكَ فكونك مَن يعتني بزاك يخوِّلها الحقّ بمعرفة كلّ ما نعرفه عنك.أرجو تفهّمك.
- ماذا عن براد؟ و أين تدخُّل الطّبيب فيما يخصّه؟
قال بتحدٍّ أطرق أمامه الرّجل فكلاهما يعلم أنّ الأب في حماية تجّار المخدّرات, ممّا يجعل أمرَ الطّبيب غير ذي أهمّيّة . براد سيُسجَن و يخرج مرارًا و تكرارًا دون أن يُتّخذ بحقّه إجراء فعليّ ...هكذا هي أيدي عصابات المخدّرات تطول حتّى الأروِقة الخفيّة لدى الشّرطة بَل ومَن فوقهم!
- أنت و زاك في مُقتَبَل العمر , أمامكما حياة مُشرقة فعيشاها وإنْ لَم تخلُ من المنغِّصات ...لا تسأل كثيرًا عن حلّ لأبيك , لا أريدك و شقيقك أن تتعرّضا لأيّ سوء . اعلم فقط أنّ أمّك ظُلِمَت معه . إن أحببتَ الاطّلاع عن ذلك بإمكاني استئذانها و إخبارك.
- لا داعي فزاك موجود,سأسأله لو اهتممتُ بأمرها يومًا.
بهذا غادر متعبًا متداعي الأحاسيس . فرح برنين الخليوي فضغط زرّ الرّد و قبل أن يفتح فمه أتاهُ الصّوت العزيز الذي يشبه صوته تمامًا:
- أين أنت الآن؟هل أحضّر الإفطار؟
-بَل سأشتري لنا شيئًا في طريقي.
- لا تبذّر نقودك!
-نقودي و أنا حر ...
-أساسًا لِم أحاول مع معتوه مثلك؟!
و أغلق الخط فراح أوك يكركر وحده وهو سائر ...يحبّ أحيانًا مضايقة زاك و يستمتع بردود أفعاله ,يشعر أنّ أمورًا كهذه تقرِّب أخاه مِن الحياة الطّبيعيّة لأيّ شابّ سويّ سليم.
على ذكر الحياة الطّبيعيّة خطرت له الجامعة , بما أنّ أخاه متغيّب وهو متفرّغ فلن يضرّ الاتّصال بماليري. لحسن حظّه كانت في فترة الاستراحة فردّت بسرعة , وتكلّما باعتياديّة عن كونها ستستنسخ له الملاحظات و كلّ ما يحتاجه .
راح ينقر على طاولة الكافتيريا و كأنّه بانتظار شيء ما , بينما وجهه لا يعكس سوى السّأم. تأكّدت من وضع جوّالها في الحقيبة , و غمرت ظاهر كفّه بباطن كفّها ضاغطة بنعومة لإيقافه و هي تتبسّم:
- مابك؟ كانت مكالمة سريعة .
-مع زاك ؟
نفخت بضيق ثمّ تكلّمت :
-جيرمي؟ بدأت أنزعج قليلًا ..ما مشكلتك معه؟ تحدّث إليّ زملاء من الشّباب اليوم ولَم تتضايق.
-أكلّهم لديه رقم هاتفك؟
هاجم فاترًا , فردّت بحدّة وهي تستردّ يدها:
- إن كان كذلك ستبدأ بالشّك بي , ها؟
-أنا لا أشكّ بك ألا تفهمين؟!
- كلا ,يبدو أنّني فعلًا لا أفهم!
غادرته متجنّبةً إيّاه طوال الوقت , ضاق ذرعًا بأسلوبها فتركها كما تشاءحتّى انتهتْ محاضراتهما , فاستوقفها قبل أن تغادر القاعة .
-ميلي , يجب أن نتكلّم.
ردّت بخفوت لَم يلفت انتباه الطّلّاب المغادِرين:
- عن كونك تظنّني خائنة؟! لا شكرًا
كادت تمضي فقبض على معصمها خفْيَةً وصبره يتبخّر :
- ألا تعقلين ؟مَن نعتكِ بالخائنة؟
-تصرّفاتك !
-تبالغين . لَم أتصرّف بما ينافي المنطِق حتّى الآن.
خلت القاعة إلّا مِن كليهما فصرخت في وجهه غير محتملة نبرة التّهديد :
- حتّى الآن؟!ماذا تعني؟؟لَن أترك زميلًا فقط لأنّك غير عقلاني!
حاولت سحبَ يدها لتغادر وحين لَم يتجاوَب زعقت :
-دعني و إلّا!
لَم يعلم أيّ شيطان أعماهُ أخيرًا جرّاء كلّ كلماتها...
نعم , هي مَحض حروف تتلاقى... غير أنّها قادرة على إشعال حريق !
شدّها لتستدير بكلّ هيئتها نحوه , و راح يهزّها بعنف انتثر له شعرها رمالا صحراويّة باهتة, وهي تجاهِد لتخليص كلتا ذراعيها, بينما دَمدم:
-و إلّا ماذا؟ !أرِني ما أنتِ فاعلة مالَم أدعكِ الآن؟!
قبل أن يستوعب شيئًا دُفعَ إلى الجدار و عينان احترقت فيهما الخزامى تتوهّجان مباشرة أمام عينيه...آشلي الأخت الكبرى الهادئة الرّاقية؛ كانت قد دخلت
لتستطلعَ سبب تأخّر ماليري ,فقط ليطالعها منظر شقيقتها تُقاتِل لتنتشل نفسها مِن بين يديّ الصّهر العزيز...
إلّا الخطّ الأحمر .. أختها!!
-كيف تجرؤ؟ أمّي وثقت بكَ رغم اعتراض أهلك.رغم ظنّهم بكونك عديم المسؤوليّة...أهكذا يكون الجزاء؟!
تكلّمتْ بهيمنة , منتظرةً اعتذارًا من الشّابّ الذي لطالما اعتبرته أخًا صغيرًا هو الآخر, يحقّ لها معه ما لا يحقّ لغيرها. لَم يستوعب مع غيظه الذي استفحل من جرّاء دفعتها فزأر بشراسة:
- لا تتدخّلي !
دع الأمر لفظاظة جيرمي كَي تجعل طبيبة المستقبل تكسر الكوابِح لديها ,و لا شيء أشدّ رعبًا مِن إغضاب الهادئين!
فبلكمة من خارج كوكبنا صبّت ما اعتمل فيها من شعور ,و أخمدت أنفاس الشّابّ لهُنيهة!
بهذا استدارت دونما حرف, مغادرة مع ماليري التي انعزلت روحها عمّا حولها, وقد حزَّ خافقَها إحساس غريب , كالوَجع و الخدر في آنٍ معًا... و هي تنظر إلى معصميهما ....
بتاريخ هذا اليوم بدأت تهجس خذلانًا من جهةِ رجل لَم تتخيّله يؤذيها يومًا !
لاحقها جيرمي بنظراته , يده على مكان الألم الذي فرضتهُ أختها كمنبّه أيقظه, وعّاه على حقيقة أشدّ إيلامًا ...
فمن مُعايرة آشلي, إلى تمسّك ماليري بزاكوري,بلا أيّ تنازل عن رأيها على الأقلّ من أجل مشاعره كرجل....
أهكذا تفكيرها فعلًا؟!أنّها تحنّنت عليه بقبولها الزّواج به؟؟
بتاريخ هذا اليوم ...بدأ يلمس استِغناءًا مِن قِبل إنسانة رسمَ فيها نصفه الآخَر ! انتهى الفصل
و انا كمان انتهيت بسبب تجسيد عدّة أشكال من الغضب :nop:
منها المكبوت , منها الكلامي,منها قول مع الفعل
بعض الغضب فيه تحكم بشكل او بآخر بعضه لا
ارجو انه نال اعجابكم
بانتظار ردود جميلة مثلكم |
|