. إذا القلبُ خطَّ، انحنتْ الكلمَاتْ
مهارة في السّرد و قوة أسلوب جد ابدعتِ لاف " بداية "
حلقُه يكاد يتشقق من شدة الجفاف, ظن أن حتّى الدمَ داخل جسده سيوشكُ على التحول إلى صخر..
فتَح عينيه ببطأ, وهوَ يحس بشعور غريب, كيف لبشريٍّ أن يحس بهذا العطش إلا إذا كان لم يشرب قطرةً منذ أسابيع.. أخذ يحاولُ فتح عينيه الملتصقتين بسبب النَّوم, ونظر تلقائياً لجهته اليسرى يحاولُ إيجاد ساعته الإلكترونية, لكنها لم تكُن هناك, ولم يكُن هنالِك أي ضوءٍ في جانبه الأيمن
أحس بشعور غريب, فحتى النافذة التي نظر إليها لم يكُن أيّا من نورِ الحديقة والشارع البعيد يصلُ إليها
كأن ضوء الكون قد مات, إلتفت يحاول إيجاد أي شيءٍ قد يدله على إن كان على قيد الحياة بعد, حتى نظر إلى ساعة الحائط, ولم يكن سيعلم بمكنونتها سوى لأنها الشيء الوحيد – وياللغرابة – الذي استطاع رؤيته رُغم أن الظلام يحتل كلّ شيءٍ هنالك
لم يكن يخاف من الظلامِ حقيقةً, كانت لديه هواجس أخرى أهّم, لكنه نظر إلى الساعة, الساعةُ التي تتوجه كل عقاربهاَ الثلاث إلى الرقم إثنا عشر ..
~
ارتجفَ من فوره عندما اختلّ السكون المميت في العالم وفي غرفته خصوصاً بصوت عقرب الثواني يتحرك إلى الثانية الأولى, لكنَّ صوته كان قد تضاعف, كأنما كانت تلك الساعةُ المضيئة تطرق جدران أذنه بدقاتها السريعَة, المتتالية
أحس حينها بقليلٍ من القلق بعد تلك الثلاث ثوانٍ التي استغرقها ليتمكن من استيعاب ما حوله ...نظر حوله يبحث عن أي نقطةِ ضوء من العالم , يريد التأكد إن كان هناك شيءٌ ما يطمئنه في هذا الوقت المخيف
لكنها
– وكما الحال مع ساعته –
لم تكُن موجودةً أيضاً !
قام من مضجعه والقلق والعطش قد تمكنا منه, سار إلى باب غرفته رغم الظلام الذي يلف كلَّ شيءٍ حوله ماعدا الساعة التي يزداد صوت ضربات عقاربها كل ثانية.. الأشياء الغريبةُ تستمر في الحصول للويس , فبعدما مشى بطريقةٍ عشوائية إلى الباب الذي لا يعلم مكانه, معتمداً على صوت الساعة فقط .. عثر على المقبض فورما مدّ يده إليه , مع أن الجزء المخصص للأماكن في دماغه قال أنه ليس المكان الصحيح, لكن لويس تجاهل ذلك وفتح المقبض ..
خرج لويس, وحينمَا خرج اخذ الرُّعب أخيراً مكان القلق, ذلك حينما رأى الرواق خارج غرفته طويلاً ممتداً إلى مالا نهاية , مع أنه لم يستطع التمييز جيداً بسبب الظلام, لكنه أحس بالخواء البارد الذي يخبره بأنه بمكانٍ فسيح, بجدرانٍ سوداء, كلُّ اللوحاتٍ التي عليها اختفت, أخذ يسير, ويسير, ومع كلّ خطوةٍ يسمعها يتآكل جزءٌ من دماغه, بالخوف
ماهذا الممر الطويل؟
وجد لويس له نهايةً أخيراً .. وهو يحادث نفسه بأنه في حلم ما بالتأكيد.. فالجو الذي يسكن المنزلَ غيرُ طبيعيٍّ أبداً..
إلتف لويس عبر الرواق ليجد مكان السلّم رواقاً آخر طويلاً .. أخذ الخوفُ الآن ينهشه, بطيئاً سريعاً كأنه سمٌّ يجري في دمائِه .. سار في الرواقِ الآخر, لا يعلم ما نهايته أيضاً, إنما كان لذلك الرواق أبواب, لكنه أبداً ما تجرأ على فتحها
سار, حتى قرر أخيراً أنه يريدُ العودةَ إلى غرفته, لربما لهذا الحلم أن ينتهي !
وصل لويس أخيراً لباب غرفته الذي وجده مغلقاً, ليس كما تركه, مدَّ يده وهوَ يعلم أن لا شيء آخر يمكنه فعله, أحس بالعجز أمام الخوفِ أخيراً, فتح الباب ولصدمته لم يجِد سوى ممرٍ آخر, ممرٍ محاطٍ بالأبواب..
أقفل الباب مرةً أخرى حينما ظنّ أنه فتح باباً خاطئاً .. لقد أساء التذكر بالتأكيد, كيف لغرفته أن يتغير مكانها, إنها أمله الوحيد في الخلاص الآن, إشتاق لتلك الساعة ..
أخذ يجري الآن , يفتح أبواباً , لا يجدُ خلفها سوى الأبواب, ليس هنالكَ سوى الظلامِ والبردِ ومزيدٍ من الأبواب .. لم يعلم مايفعله الآن, هل يصرخ ؟
لكنّ الخوف ألجمه, هل يقتل نفسه ؟
لربما يجدُ خلاصاً من ذلك ..
استبد بِه اليأسُ أخيراً, حتى جلس مستنداً على أحد الجدران.. يحادث نفسَه وأشخاصاً وهميينَ لا يعلم إن كانوا موجودينَ أصلاً ..
كيف السبيل للخروج من هُنا ؟ كم مضى عليه ؟ دقائق؟ ساعات؟ ام دهور وهوَ يركض بين الممرَات
جلس ينظر إلى الظلام, لا يعلم أين هو, لا نوافذ , وحتى الأرضية من بلاطٍ باردٍ لا يعلم ما لونه, وسائلٌ لزج يتقاطر عليه بين الحين والآخر لم يعلم ماذا يكون.. لقد اتخذَ قراره, سيفعلها, فتح فمه متأهباً, خائفاً بائساً يريد لجيحمه أن يؤول إلى نهاية
وقبل أن يهم بقطع لسانه إذ به يسمع صوتاً آخر غير صوته, لم يعلم هل يخافُ أكثر أم يفرح, هل يفعل ماقرره أم يبدأ مطاردةً أخرى خلف ذلك الصوت, صوتُ ضحكاتٍ تردد إلى مسمعه
قرر أن يلتف, ليرى خيوطاً ذهبية تتطايرُ وباباً يغلق من خلفها, وقف, وأخذ يجري خلف الأمل الوحيد الذي وجده, فتح الباب بقوةٍ ليجد جداراً أصم كالأمل الذي ذهبَ من فوره كما جاء, جدار؟!
ابتعد قليلاً يحاول رؤية شيءٍ يدل على وجود أحد, على حامل الصوت الذي سمعَه للتو.. لكنه لم يجد أحداً
إنما وجد على ذلك الجدار شمعداناً مضيئاً.. معلقٌ به رسالة.. رسالةٌ لم تحتوِ إلا على كلمتين : ( تجنب المرايا ) , المرايا؟ وهَل هنالكِ من مراياً أصلاً ؟ ملّ من تكرار الأشياء المعدودة الموجودة في هذا المكان, البعد, الحلم الذي لا يعلم كيف له أن ينتهي.. التف خلفه بيئس مرةً أخرى.. التف حتى صُدم بمرآةٍ تبلغُ طوله مرةً ونصف تنتصب أمامه..
نظرَ إلى نفسه.. إلى شبيه نفسه الذي يحمل حدقتين لم يملؤهما سوى السواد, نظرَ إليه على ضوء الشمعدانِ الذي خلفه.. والآن؟
لم يعد هنالك فقط شمعدانُ واحد.. لقد رُصّ الكثير منها على الجدرانِ الذي اتضح لونها الرمادي الباهت.. والأبواب الخضراء كالأوراق الميتة.. والأهم من ذلك.. مراياً موجودةٌ أمام كلّ ضوء .
أخذ يتأمل انعكاسه الوحشي, الذي ابتسم فجأةً, مع أنه لم يفعل, تغيرت ملامحُ وجهه إلى ملامح لويس مرةً أخرى, قبل أن يريد أن ينقض عليه , أغمض عينيه غريزياً حينما أراد انعكاسه الخروج من المرآة , وضع يديه أمام وجهي لحمايتِه من الكائنِ الوحشي المجهولِ المتنكرِ على شكله .. ولَم يسمع سوى صوتِ انقضاضٍ نهم أسكتَ الصمت .
~
آه, تنهدت وأنا أستيقظ, مللتُ من مراقبةِ ذلك اللويس !
لقَد ذهب أخيراً , ومرةً أخرى, بعد أن يختفي الأشخاص في هذا المنزل, أحلُّ أنا محلهم, أستيقظ على السرير الذي كانو نائمين به .. نهضتُ وتوجهت إلى المرآة, ألقيت نظرةً على طاولة الزينة الخاصّةِ بلويس سابقاً, وكما حدث لذكرياته.. تلك التي تلاشَت من عقول الآخرين, اختفت كل ممتلكاته, إبتلعها هذا المكان في أحد حجراتِه المغلقة, المخفية التي لا تطالها أيادي البشر وإن عملوا حتى مماتهم..
ألقيتُ نظرةً إلى وجهي الجميلِ بالمرآة, أنتظر حلولَ نهاية هذا اليوم, والأشباح تدور من حولي, أنتظرُ مقتلي للمرة الألف, المليون ربما, توقفت عَن العد بعد المرة الألف وستمائةٍ واثنين وسبعين . .
بعد قليلٍ سيأتي لي ذلك البنّاء المهووس, كان أحد العاملين في بناء هذا المنزل الذي بناه والدي .. لطالما كرهت الجمال الذي رزقت به.. وبعدَ ذلك كان سبب تلك اللعنة التي أنا بها الآن, بعد أن رآني أحد عمال البناء هناك حتى قرر أنه سيصبح مهووساً بي , اصبح مطاردي, حاولتُ أن أتحاشاه قدر ما استطعت لكن يبدو أن هذا قد أغضبه, أغضبه إلى الحد الذي قتل فيه عائلتي انتقاماً
ثم أخذ يلاحقني في طرقات هذا المنزل الكثيرة, محاولاً الاقتصاص مني بقطعة مرآة مكسورة .. هه! مفارقةً مضحكة أعتقد, أن تكون المرآة التي لطالما كرهتها ونبذتني الأخريات من الفتيات بسبب انعكاسي عليها, هي من ستقتلني, ولكن.. لا أعلم هل سوء حظي أم لحسنه, استطعت الفرار من ذلك المعتوه بالدخول إلى إحدى الغرفِ في أحد الأروقة التي لا تستعمل في بيتنا.. رواق ينتهي ببابٍ أخضر اللون حاولت أن أفتحه بأقصى ما استطعت لأختبئ خلفه, أخذت أحاول كسره, طرقه, حتى لو كسرت يداي, لكنه مَا فُتح !
سمعت صوتَ خطواتٍ مجنونةٍ آتيةٍ من الخلف.. اشتد بي اليأس, حتى همست : افتح أرجوك, دعني أهرب من هنا ! .. لو كانَ ذلك الحدثَ قد صار الآن, بعد ان اكتسبتُ الشجاعةَ والثقة, لربما كُنت أخذت المرآة وقتلته بها, فقوته كرجلٍ لا تمثل شيئاً لي الآن.
أظنُّ ..أنه ولأول مرةٍ في حياتيَ سارت الأمور كما أريد, فتحت بوابةٌ نقلتني لغرفةٍ مظلمة في بعد آخر ..
لا أتذكرُ تفاصيلَ ذلك اليوم جيداً لبعدها, كم مضى من السنينِ الآن على ذلك اليوم؟
ذلك البعد المظلم.. بضعة أشخاص تحدثت معهم, الخائف, الأبله, تلك الفتاة القوية.. الكثيرون منهم الذي انتهى بهمُ المطافُ في مواقفَ لا يحسد عليها أي أحد !
وهنالك حيث كُنت بين خيارين.. إما ان أعود لعالميَ ويحدث كما كانَ يجب أن يحدث.. أو أن أخوضَ تجربة.. تجربةً ستحيل حياتيَ أفضل مما كانت.. كان يجب عليَّ أن أخوض تحدياً, استسهلت التحديَ حينها.. لكني عضضت أصابعي ندماً بعد ذلك ..
كان يجب عليَّ أن أعيد ذلك اليوم الذي لاحقني فيه المجنون عشراتِ آلاف المرات.. أن أستيقظ.. أذهب للإفطار فأجد عائلتي كلهَا ساقطةً على الأرضية.. رقع الدماء الثمانية عشر التي حفظت أشكالها متراميةٌ من حولهم
فك أخي المكسور, رأس أميَ المقطوع, قدما أبي المقطوعتان الموضوعتان فوق جسده.. من ثم كان يجب علي الهرب
كنت أقابل القاتل المهووس ما أن ألتف بوجهي, وأركض منه, وفي أي طريقٍ كنت أركضه دوماً ما ينتهي بي المطاف خلف الباب الأخضر, كان يُفتح لي دوماً كي أختبئ, لم يكن البعدُ المظلم ذو الاثنا عشر باباً متواجداً خلفه .. لكن كانَ هنالك بعد آخر فيه العديد من الممرات والدهاليز المظلمة المتشابهة, المليئة بالأبواب الخضراء فقط, كُنت أختبأ خلفها حتى يأتي الساكن الجديدُ لهذا المنزل.. كان التحدي الذي ألزمت به أن أجعل هذا الساكن يخرجُ من هذا البعد إلى عالمِه الأصلي !
حينها ستنتهي لعنتي وأعيش..
حينما قبلتُ التحدي كنت أظنه سينتهي خلال بضعٍ من الأيامِ إن كثر.. أو الاسابيع, لكنه طال, طال كثيراً !
فدوما ماكان يأتي شخصٌ ما إلى هذا المنزل, وفي ليلته الأولى, حينما يخلدُ للنوم, ينتقل إلى العالم الآخر الذي أتواجدُ أنا به.. يجبُ أن لا ينظرُ للمرايا .. ففيها توُجد لعنتي..
كلُّ منهم يختلف مايراه في المرآة , القاسم المشترك أن جميع الانعكاساتِ التي يراها الأشخاص تملك عيوناً لا يجب النظر إليها وإلا سيحتجزون في بعدٍ آخر لطوال الأبدية ! وكلما طالَ بقائي هنا.. سيبقون محتجزين هنالك.. بعيداً يراقبونني باعينهم .. والآن.. بعد أن مات لويس . سيأتي ساكنٌ آخر لهذا المنزل, سيموت ثم أحل أنا محله وهكذا حتى مالا نهاية, حسناً, لا يهم فبالنهاية لا أعلم مغزىً من وجودي, مللت وأنا أنتظر الفرج الذي لن يأتيَ أبداً.. كيف أنقذهُم ؟! ..
مشطتُ خصلات شعري الذهبية, كانت قَد أصبحت بيضاء الآن مع انعكاس الشمس الساطعة عليها .. حفظتُ منظرها, كل يوم
– بمنظوري أنا كانت كل يوم, مع أن كل استيقاظٍ وآخر لي يكون بينهما شهور_
لكني كنت قد تعودت, الآن ذهب لويس, اختفى على الأحرى.. مهما حاولت مساعدته هوَ والآخرين فهم دوماً مصرون على النظر إلى المرآة..تنهدت.. الآن عدتُ لنقطة البداية, عادُ الزمن وأخفى آثار كلّ من كانو هنا.. انهيت ترتيب شعري.. لم أغير ملابسي.. فمنذ لُعنت هكذا وأنا أصحو وأنام بنفس الرداء .. كأني موظفةٌ ما , وهذا زيي الرسمي !
سِرت حتى البابِ البني للغرفةَ.. وفي الساعةِ الثانية عشر ظهراً .. لمحتُ الساعة على الحائط الموازي.. دائماً ما تكونُ الثانية عشرَ ظهراً من اليوم الأخير في ديسمبر 2016.. لم يحلّ يناير أبداً.. لمَ أرَ ليله ! كرهت تلك الليلَة الدمويةَ التي ماتنفكُّ تعيد نفسها حتى تمنيت من الوقتِ أن يدمر نفسه !
.. أمسكت بمقبض الباب وفتحتُه.. سرت كالأمواتِ وأنا أعلم مالذي ينتظرُني أمامي.. نزلتُ السلالمَ درجةً درجةً متوجهةً إلى الصالون الكبير لبيتنا.. أنتظُر سماعَ وقع تدحرج الكأس الذي سيقطها ذلك الشخص.. اختبائه وراء الباب ليراني.. ثم ينقض عليَ فأستطيع الهرب منه إلى الباب الأخضرِ الذي لا أجده سوى بعد هرب 12 ساعة.. ولمَ لا أهرب وأغير النمطَ إن كنت اعلم كل ذَلك؟
لأني إن حاولت الهرب.. لن أموت.. سأحتجز مع بقيةِ المنسيين في بعدهم الآخر, ولا ينقصني الآن سوى أن أموتَ عقلياً هناك حيث يبقى جسدي صاحياً للأبد.. ولأن لا محرر لهم إن لَم أستطع أنا أن أجعل أحدهِم يخرج من تلك المتاهة.. المتاهة التي لَم أعرف أنا طرقها طوال هذا الوقت.. لم أكن أفعلُ شيئاً في كل مرة سوى مساعدتِهم على المواصلةِ أكثر بلا أن يروني .. ممنوع علي أن أتكلم إليهم وإلا سأعاقب أيضاً..
استبد بيَ اليأس حتى ماعادَ في روحي روح .. سرتُ وأنا معتادةٌ على هذا الكابوس غير المنتهي, الذي تنتظر روحي نهايته .. مع أنَّها قد جفت أصلاً.. حتى منظرُ اشلاء أسرتي لَم يعد يهزُّ في شيئاً.. لو لم تكُن هنالك أرواح منوطةً أنا بإنقاذها لكُنت اخترتُ الوقوع في الجحيم لعله يكون رحيماً عند هذا النمطِ البارد, المتكرر!
أخذتُ أسير.. حينمَا لاحظتُ شيئاً.. شيئاً لاحظتُه للمرةِ الأولى ! هنَالك بجانِب الجرة التي في الممر الاخير.. طرفُ شيءٍ أبيض !..
رفعتُ نظريَ عنه وأخذتُ أسير بانتظام لألا أحدث خللاً في تسلسل أحدث اليوم.. لكن حينهاَ .. سمعت صوتَ هامساً كالصفير كانت تلك الزاويةُ مصدره !
أردتُ الذهاب إليها حينما لاحظتُ أني لم أسمع صوتَ تدحرج الكأس المعتاد الذي يفعلهُ المجرم.. لفتَ هذا انتباهيَ أكثر فقررت متابعةَ المسير لأرى مالذي قد حدث له !
وإذ بي أسمع صوتاَ مختلفاً.. للمرةِ الأولى صوتٌ آخر, صوتٌ غير معتادٍ في النمط.
هرعتُ إلى الصالون ركضاً غير مبالية بالقواعد التي يبدو انها كُسرت !
لَم يكن يوجد شيئٌ هناك.. فقط صوتُ التلفاز الذي كان من المفترض أن يسقطَ ويكسر بحلولِ الآن.. هل كان هذا لأني قد خرقتُ القواعد؟ هل يعودُ كلُّ شيءٍ لمساره الطبيعي الآن ؟
قلقت لاول مرةٍ منذ زمن.. ليس كثيراً .. لأني تذكرتُ ذلك الشيءَ الأبيضَ الذي رأيته بجانب الجرَّة .. ذهبت إليها ركضاً وأمسكتُ بالطرف الأبيض الذي اتضح بأنه ورقة.. ورقةٌ مكتوبٌ عليها " واجهي المرايا " !
أواجه المرايا ؟ هل هذه الورقة لي ياترى؟
.. عقدت حاجبي .. ثم قررتُ الإنصات لفحوى الرسالة.. توجهت إلى الصالونِ الذي للمفاجئة لَم تكن فيه أي جثث.. جثث عائلتي التي اعتدت رؤيتها كل يومٍ من هذه الأيام المتكرره !
بأي حالٍ لم أصدَم كثيراً.. أظن بأن كل تلكَ الملاحقاتِ والأبعاد والصدماتِ قد خلقت لديَّ ردةَ فعلٍ ضد الخوف, لن أخاف من شيءٍ بأي حالٍ من الأحوال, من الممكنِ أن أتوتر فقط !
توجهتُ نحوَ المرآة الدائريةِ الكبيرة في المدخل.. أحسستُ بحريةٍ بالغة وانا أخطو خطواتٍ جديدة !
كُنت مع كلِّ خطوة أنتظر أن يفتح شقٌّ في أحد الجدران ليبتلعنيَ إلى عالمٍ آخر.. كما اعتدت دوماً !
وأخيراً.. وصلتُ إلى المرآة.
نظرتُ إلى انعكاسيَ عليها, منتظرةً حدوث شيءٍ ما .. بكلِّ برودٍ ومن دونِ ذرةِ خوفٍ دخيلة, لا يمكنُ لمن صَار وحشاً أن يخاف من الوحوش ,أو شيئٌ كهذا .. قال لي قلبي .. فبعد رؤية كل تلكَ الوحوش المنعكسة في المراياَ, تلك التي كانت مخاوفي ومخاوف عشرات الناس غيري .. وصلتُ إلى درجةٍ حطَّت محلها الإثارةُ لديَّ عوضاً عن الخوف حينما أرى شيئاً جديداً..
قطع علي تسلسل أفكاري تغير طرأ على انعكاسيَ بالمرآة.. لَم أفاجئ بالطبع, اعتدتُ أن أنتظر هذا.. توقفتُ لحظةَ أنتظر من سمانثا التي في المرآة أن تقفز .. لقد حدث هذا بالفعل .. وفي اللحظةِ التي خرجت منها من هُنالك التفَّ الظلامُ حول كل شيء.. لكني استطعتُ الرؤية بعيني المعتادتين على الظلمة !
تراجعتُ إلى الخلف وأنا أبحثُ عن شيءٍ أستطيع قتالها به, إن كانت فعلاً بمثل قوتي الآن فلن أقلل من شانها, وفي العادة, يكون للانعكاسات جرئةٌ أكبر مما يمتلك أصحابها.. لذلك تلتهمهم أحياء ..,
التقطتُ رمحاً ذهبياً كان معلقاً على أحد الحوائط وأخذت أصدها به.. تفوقَت علي قليلاً بسبب تعطشها لدمائي لكنِّي كنت متفوقةً باستخدامي لعقلي عليها .. قررتُ احتجازهَا بأحد الزوايا ومحاصرتهَا !
أخذت أتراجع العديد من الخطواتِ موهمةً إياها بأنها تتفوق عليّ.. حتى وصلت إلى الزاوية التي أريد, وفي حين اللحظةِ التي رمَت نفسها علي استطعتُ ضربَ قدميها برمحي ودفعها للزاوية.. التففتُ لكي أواجهها .. حانت اللحظة الحاسمة.. أشهرت رمحيَ الثقيل طويلاً وأنا أسمع صوت اصطدامه بالهواء وهو يشقه.. حينها, سقطَت عيناي داخلَ عيني نسختي ..
فهمتُ الآن ولأول مرةٍ ماحدث, مافعلته أنا لنفسي..
عادت كُل الأحداث الماضيِة تدور أمام عيني .. كل تلك الأحداث والمطارداتِ والخوف.. قبل أن اسقطَ رمحي.. وبنظرةٍ واحدة استطعت فهمَ نظرات نسختي تلك التي ما حاولت تأملها يوماً..
لأني الآن وحين نظرتُ جيداً.. فالنظراتُ بداخل عينيها ليست تعطشاً للدماء.. ولا أعتقد أن أياً من الانعكاساتِ كانت يوماً حاقده..
لقد كانت تستجدي السلام..
تُريد أن تَتحد مع جزئها الناقص .. ذلك الجزء الذي كان " أنا " .
رميت رمحيَ بعيداً وكل تلكَ الأحداث طوالِ تلك السنين تتوارد إلي تباعاً.. لم يكن الخوف الذي أصبحَ عدوي سوى وهمٍ قد خلقته أنا لنفسي !
حينما قررت أن أحارب لم أعلم أن كل مايستلزمهُ الأمر مني.. الآن وفي طفولتي هوَ تقبل نفسي.. احتضانها قريباً من قلبي.. لو لَم أخف وأكره شكلي الجميل الذي نبذت من أجله.. لما كانت شخصيتي قد ضَعفت أصلاً, لما اهتزت.. لما هربتُ من مضايقات فتيات المدرسة بالنوم.. لما نِمت في آخر يومٍ في الصف الثالث وقصصنَ جدائل شعري.. ولو لَم أخف.. لو واجهت أبي بما كان ذلك البناء يفعله لي من مضايقاتٍ أو بلغت الشرطة لأوقفه عندَ حده.. لو لَم أخف بأن أكون نفسي, بأن أكون على حق !
سرتُ نحو نسختي.. مددتُ يدي إليهَا..
وحينها..
حينهَا فقط شعرتُ بالسعادة بَعد كل ذلك الأبد الذي ظننتهُ لن ينتهي.. أمسكت انعكاسي وهو أمسك بي ..
ضممته كثيراً طويلاً حتى أصبح كلُّ شيءٍ من حولي أبيضاً.. حتى ظننت أني أرى مصدر النور في العالم .. وحينها, فقط تذكرتُ ماكانت النظرةُ البادية على وجوه من كنت أظنهم ضحايا حينما يرون انعكاساتهم.. كانت الصدمةُ والتقبل فقط.. لا الخوف الذي ابتدعته أنا.. بالتأكيد عادوا إلى عالمهم كما سأفعل أنا الآن .. وحينها .. سرتُ في ذلك الممر المضيء.
- إنتهى الفَصل - |
] |
__________________
-
يارب، فردوسك لأمّي وأبي وأحبتي أجمعين.
𝐖𝐡𝐚𝐭 𝐰𝐞 𝐝𝐨 𝐧𝐨𝐰 𝐞𝐜𝐡𝐨𝐞𝐬 𝐢𝐧 𝐞𝐭𝐞𝐫𝐧𝐢𝐭𝐲.
التعديل الأخير تم بواسطة وردة المـودة ; 01-28-2017 الساعة 05:29 PM |