واشراقة وجهها فاجأت الجميع، وابتسامتها اخترقت دفاعات قلبه، رآها بعينيه الحانيتان،
وأشك أن يفقد خطوطه الدفاعية، استطاع تمييز توأمته من بين الجميع، وأكد له الجنرال أن تلك هي الأميرة،
شعر لياو
أن الجنرال يعرف حقيقته واهتمامه به لم ينبع من فراغ...
كان صديق والده البيولوجي، بل كان الأخ الأوفى له،
تعرف لياو على تشاو في الصباح الباكر وأحبه من قلب صادق، وتوأمته التي ما غابت يوماً عن حاضره،
رآها لتقر عيناه، ويطيب خاطره، لكن الوقت لم يحن....
رآها قادمة إليهما ووقفت أمامه مباشرة...
" لياو تشونغ الأسطورة، آكل لحوم المعتدين، حامي الإرادة بأي لقب تريدني أن أناديك."
تحدثت بلباقة وابتسمت ورد عليها بمودة مبتسماً:
" لياو الناعس المتناقض، لم تذكريه وهو الذي أفضله أكثر."
ضحك الجنرال وطلب منهم الذهاب تحت ظل أوراق متسلقة حيث رائحة الزهور المنعشة
والحشائش المفضلة خصيصاً لـ لياو...
لم يشعرا كما البارحة، بل على عكسه تماماً، الألم الذي أصاب قلبيهما انقلب شوقاً متوارياً عن أعين العالم...
بقيا يحدقان ببعضهما.. لا يدري أحدهما أي الأقاويل أبلغ، أيها سيكون المحبب لبداية حديث طال انتظاره لقرابة عقدين.
تأملها لياو بشوق ظاهر لم يخفَ عليها، فرفعت كفيها تغطي احمراراً طفى على وجهها،
ابتسم هو بحنان ثم ومن دون إدراك حرك يده نحو رأسها يمسح على الخصلات الجون البراقة التي
تجمعت وعقدت بهدوء بمشبك لزهرة مائية بيضاء.
توترت معالمه وهو يرى خجلها فقفز من مكانه بخوف وهو يتمتم بكلمات لم تفهمها
وإن كانت سبباً لنوبة ضحك اجتاحتها....
لانت ملامحه الشاحبة وهو يرى ابتسامتها.. ثم قال بخفوت وهو يحك شعره بسخرية:
" آسف لم أقصد مفاجأتك.. إنها عادة قديمة وإن كانت أول مرة أقوم بها لأحد".
حركت يون يان رأسها بهدوء ثم أشارت له أن يجلس بجانبها، فوق الحشائش التي يفضلها،
وهدأ بالها بعد أن علمت أن الإمبراطورة ليست في الجوار، وأعين الجنود غائبة عن المكان، باستثناء الجنرال الذي
وقف قريباً سانحاً لهما بخلوة تَعَرُّفٍ جميل...
سعدت في داخلها لأن تشاو سمح لهم بذلك فهو من أحضرهم إلى هذه الزاوية من القصر بعيداً، التنين أخبرها
أنه بلغ بعلمه سر أخوتهما وكان وفياً لها كما كان لأبيها وتستر عن أمرهما سعيداً.
تشنجت معالمه وهو يفكر في فظاعة موقفه السابق، هو لا يدري بداية الحديث، ولا يدري كيف التصرف السليم..
يخشى أن يفقد كل قدرته ويفصح لها عن الكثير، عن كل ما يختلج صدره من ألم وفراغ،
عن تلك التخيلات التي تجتاحه في أوقات سباته لتنغص عليه عيشه. تنهد ثم ابتسم،
جلس على بعد خطوات منها ثم اقتلع مجموعة حشائش وبقي يحركها بين كفيه.
" أهذه طريقة للتخلص من التوتر أم أنها احدى عاداتك القديمة؟"
خاطبته بهدوء مع ابتسامة مغيظة نوما ما، ضحك هو ثم استلقى على العشب بعيون مغمضة
تنسم رائحة الطبيعة التي احتضنته ثم افصح عما يخالجه بصوت ركيك:
" أجل هي كذلك.. فهي كانت مسندتي الوحيدة، هذه الحشائش أيتها الاميرة."
" إذن لا عجب من أنك مللت من عدها.. أيها المخلوق العجيب كفاك وقاحة مع الأميرة."
التفت إلى الخلف بتفاجئ فوجده هناك، جالساً القرفصاء أمامه بوجه منزعج وإن كان الاحترام
قد ألصق به بطريقة متفردة عجز لياو عن تخيلها.
أمالت الأميرة رأسها باستغراب تستكشف القادم الجديد.
أبصرت خصلاته البنية
التي ما ملكها يوماً إلا القلة القلائل في القصر الامبراطوري
وكم راقت لها، ثم تفحصت ملابسه الزرقاء السماوية التي ماثلت ما يرتديه توأمها هنا..
سروال أزرق معدني فضفاض يتوغل داخل حذاء أزرقغامق طويل العنق، كان لياو يتفرد عن صديقه
بقميص شبكي منسوج ارتداه فوق القميص الفاتح الثخين الذي يرتديه معظم الجنود.
قوس لياو شفتيه ثم مسح وجنته بغرور حين قال:
" ليس وكأني أرغب حقاً في معرفة ما يوجد في عقلك المتخلف".
" هاه؟ أتجرأ على مخاطبة سيدك بهكذا كلمات؟"
وقف وو كيونغ وهو يبتسم بانزعاج، كان يستعد للصراخ على الغبي أمامه لكن نظرات الاميرة
المستغربة قد منعته وحرية التعبير.. تمتم بخفوت كلمات سمعها لياو بكل وضوعفابتسم الأخير
يستفز شريك سكنه المزعج والذي ثار وهو ينقض عليه بسرعة.
التف الشابان حول بعضهما، مفسدين الحشائش التي بدت للأميرة المتفاجئة تصرخ
بألم.. وقفت بسرعة وهي تمسك بأطراف التشيباو الأحمر خاصتها بصعوبة.
كانا لا يزالان يتمايلان حول بعضهما البعض، وو كيونغ الذي يمسك بخصلات لياو الطويلة
والقادم الجديد الغريب من كان يخدش وجه شريكه بكل انزعاج وطفولية..
فقط لأن كسله منعه من قبض كفيه حول خصلات الآخر.
استنشقت الأميرة الهواء بكثرة ثم صرخت فيهما تحثهما على التوقف.
جمدا في نفس وضعيتيهما السابقة، أحسا برعب ممزوج بخجل طفى واضحاً على حركاتهم
المتوترة حين ابتعدا عن بعضهما.
نظر وو كيونغ إلى لياو ثم قال وهو يشتت نظراته بعيداً عن الأميرة:
" سيد لياو الذي ليس له مثيل أليس علينا الذهاب الأن؟"
نظر لياو إلى الأعلى ثم ضحك بسخافة.. صمت مدة وهو لا يزال يغمض عيناه ثم وفجأة.
" أجل يا رفيقي الحبيب لنذهب الأن.."
أكمل باحترام وهو ينحني للأميرة:
" من بعد إذنك سيدتي الجميلة."
ضربه وو كيونغ على رأسه ثم تمتم بانزعاج:
" توقف عن مغازلة الأميرة أيها المنحرف".
انصدم لياو فصرخ، أمسك كتفي كيونغ وحركهما فارتج، ثم وبسرعة نفى ما اتهم به زوراً:
" أنا لم أكن أغازلها، من ذا الذي يجرأ على ذلك، إنه فقط وداع أصدقاء."
ابتسم وو كيونغ بسخرية ثم انحنى للأميرة ورحل بينما تبع لياو الذي لا زال يحاول إقناعه.
وقفت يون يان هناك، بغرابة، علاقتهما أشد غباء من قوانين عشيرتها، لكنها ظريفة نوعاً ما
وكم أسعدها هذا اللقاء فبفضله اكتسبت صديقان قد لا تجد مثلهما وإن عاشت لقرون
أو حتى لبضع سنوات...
ضحك تشاو على التصرفات الطفولية للجنديين الجديدين وانتابه شعور بالراحة بعد لقاء التوأمين
ووعد بأن يكونا في حمايته حتى إن علمت الإمبراطورة، الحقيقة مدفونة في بئر عقله وعقل الطبيبة،
وتلك الأخيرة لن تتفوه بحرفٍ هذا أكيد، فهي من قبيلة يان في النهاية واللعنة ستلحق بها معهن.
ولكن متى؟ هذا سؤال يعرف اجابته صاحب تلك المكونات الذي لا زال مجهولاً،
ربما كانت الأميرة ولعله كان لياو... هما وريثا التنين، وهذه الورثة التي عانقاها ستبقى بينهما،
أن يتدخل بشأن تلك اللعنة لهو آخر اهتماماته، سيقف مشاهداً ما سيجري كما سيشاهد بقية الناس
هنا حلولها، والفرق الوحيد سيكون بأنه علم مسبقاً هو الطبيبة قرب حلولها.
تلك البشرية التي ما كانت يوما عاشقة لنفسها بقدر حبها لأبناء مدينتها..
تحركت بخطوات وئيدة رفقة وصيفاتها تتجه إلى جناح والدتها لإلقاء تحية الصباح المعتادة،
مضت ثلاثة أيام مذ التقت لياو وكيونغ أخر مرة، تريد صحبتهم لعل تشتتها يزول ويضمحل،
لكن حماية ما تعلمه أهم من رغبات دنيوية لا طائل لها.
وقفت أمام الباب القرمزي ذي الأعمدة المذهبة،
نظرت بابتسامة إلى الحارسين الواقفين على جانبيه
ثم دلفت إلى الداخل بعد أن
فتح أحدهما لها الباب وصرخ الأخر باسمها معلنا حضورها.
ولجت بهدوء، إلى الغرفة المذهبة
التي افترشها أثار قرمزي.. لونين عشقتهما والدتها أكثر
من أي شيء أخر،
اتجهت إلى السرير وجلست عليه بصمت، تراقب وصيفة والدتها التي تقوم
بإحكام الخصلات الطويلة لتغدوا أكثر هيبة وفخامة وضحها بكل جلاء المشبك المذهب التي
تجانس والتشيباو الأصفر المزركش بالقرمزي الذي كانت ترتديه والدتها.
أشارت الامبراطورة للوصيفة بالخروج، ثم اتجهت إلى حيث ابنتها المحببة.. مسحت على وجنتها
ثم قبلت جبهتها وجلست بجانبها.
ابتسمت يون يان بود ثم أمسكت كفي والدتها بين يديه، أدارت عينيها في المكان ولعقت شفتيها بتوتر.
رفعت زي يان أحد حاجبيها باستغراب ثم سألت:
" أهناك ما تريد ابنتي الحديث عنه؟"
ازدردت يون يان ريقها ثم قالت بعد تنهيدة طويلة:
" لقد سمعت من الكلام القليل.. عن لعنة كانت حاضرة تنغص عيش الكثيرين من أسلافنا.. أمي أهذه
اللعنة حقيقة واقعة أم أنها مجرد خزعبلات من الأساطير؟"
إكفهر وجه الامبراطورة، ومن دون سابق انذار وقفت بغضب وجالت في الغرفة جيئة وذهاباً
صمتها قد أقلق يون.. فهل ارتكبت من الفداحة
خطئاً لن يغتفر، أكان يجب أن تصمت وتقبل
بالعلم الذي نالته من التنين الأسود الذي أقلق مضجعها...
ووسط معمعة أفكار أتاها جواب زي يان الركيك:
" تلك حقيقة.. حقيقة نخجل منها منذ سالف الزمان، تقول أسطورة حيكت من قبل الجدات أن ولادة فتى وفتاة
يرتبطان بتنين من غربيب أشد سواداً من الليل هما بداية اللعنة ونهاية حياتنا السعيدة."
تململت يون يان في مجلسها ثم سألت بتصلب:
"هل يعني هذا أن أي توأم يرجع حملهم للعنة عشيرة سان؟"
زفرت الامبراطورة بانزعاج ثم قالت وهي تهم بالخروج:
" أبداً! الولد.. من يولد مع الفتاة ذاك الشخص يكون حاملاً لوشم تنين.. لكن لما السؤال الآن وهذه اللعنة ما مئالها
إلا الاضمحلال؟"
لم تجب يون.. بل بقيت تنظر بغباء إلى والدتها التي تنهدت بانزعاج ثم غادرت الغرفة بعظمتها المعتادة.
تأملت يون أصابعها الرقيقة الطويلة بضياع ثم وقفت وسارت نحو شجرتها المعتادة طالبة للراحة..
مرت بالممر الحجري الذي رصف بانتظام وتوغل في أعماق أعماق القصر الامبراطوري..
وصل مسمعها ارتجاج السيوف وصراخ المجندين فتوقفت وقد استولى هو على كل اهتمامها
رأته هناك، منتصبا يهيمن على كل الموجودين في الساحة حتى على الجنرال نفسه.
سيفه المرفوع للأعلى بزهو عكس الشمس بكل هيبتها، حركاته تناسبت مع حركات
وو كيونغ فتشكل
نسق غريب هام فيه كل الجنود الموجودين في الصار،
رن طنين خفيف في كل مرة يتلامس
فيها السيفان وتبعثرت الرمال خائفة أن تدهس تحت وطأة أحذية لا تكاد تلامس الأرض...
ابتعد لياو نحو حافة البحيرة وعلى وجهه ابتسامة مستفزة، راقب بكسل رفيقه الذي غسل العرق
جبهته وتثائب حين سأل:
" أنتوقف اليوم هنا؟ أم أنك على القتال قادر؟"
أطلق وو كيونغ – تسك - منزعجة ثم قبض بقوة على مقبض سيفه وركض بسرعة نحو لياو الذي
تفادى هذه الضربة من دون صعوبة تذكر.
تململ لياو بكسل، فقد سئم لعب الأطفال هذا
ولكن لا جدوى من اقناع وو كيونغ بالتوقف فهو قطعا ليس من المستمعين الجيدين.
أغمض عينه بتعب فصار شبه نائم يجهل الحاصل أمامه...
ابتسم وو كيونغ باستمتاع
ثم اقترب بهدوء من رفيقه الذي نام واقفا كالحيوانات والدواب..
أمال رأسه بكل وداعة ثم أعاد السيف إلى غمده وسط ترقب الجميع، ثم حرك يده بخفة ودفع لياو ببرود ليسقط في البركة.
انفلتت صرخة مفزوعة من الأخير ثم تبعها صدى ضحكات الجنود المنتشرين.
أبعد لياو خصلاته المبتلة عن وجهه ثم سال بامتعاض:
" أتريد الموت أم الموت؟ أم تراك تفضل عذابا يجعلك تتمنى الموت؟"
" وو كيونغ أتجرأ على دفع سيدك؟"
همهم الرفيق باستمتاع ثم سار نحو الحلبة يجمع بقية السلاح وتبعه الأخرون.
تنهد لياو بتعب ثم زحف خارجا من البركة متجها نحو غرفته لتبديل ملابس.
كبتت ضحكتها ثم حولت يون اهتمامها نحو ارتياح الجنرال الذي بدا عليه وإن كان يتعجب
من قوة شقيقها وكسله اللذان يتفرد بهما وكم أحست بالفخر به فهو خليفة والدها في النهاية.
أشارت لوصيفاتها بالذهاب ثم اتجهت إلى غرفة شقيقها..
أطلت من الباب شبه المفتوح
فاصطدم نظرها بوشم التنين الذي على كتفه، تسارعت نبضاتها ورأت لثواني عينان تشع ضوءً أحمر..
وابتسامة شيطانية تمثلت على فم الديجوري
ذو القشور الملتف حول شقيقها هنا والذي سرعان ما تلاشى،
عندما أطلق لياو صرخة متألماً، وهوى على ركبتيه يضغط على كتفه حيث كان الوشم....
اتسعت عيناها صدمة وركضت إليه وأمسكته من ذراعيه ليصرخ مجدداً... سألت:
لم يجبها، بل لم يستطع الرد فالحرقة أقوى من إرادته، لم يحدث له هذا يوماً!
فما السبب في هيجانه الآن؟!
نظرت إلى كتفه الأيسر لتجد حرقاً يلتف
على وشم التنين الذي ارتقى يطوق ذراعه اليسرى كاملة لينتهي بذيل عليه وبر قرمزي مسد كفه،
كان الضوء الأحمر يشع من زواياه، موترا وجالبا الرجفة لكل كائن من كان.
شهقت بفزع وهمت تطلب المساعدة إلا أنه أوقفها سريعاً بكفه الأيسر بينما أبقى الآخر مكانه..
" أحضري لي القميص بسرعة."
طلب بهمس وتأوه. حرقة شمس اشتعلت في كتفه، هكذا شعر وما أبشعه من شعور.
التقطت القميص عن السرير وعادت إليه ومدته بيد مرتجفة، تناوله منها وارتداه سريعاً فهدأ فوراً! كان مغمضاً عينيه
عندما سألته وهي تربت على كتفه الآخر:
" لياو هل أنت بخير؟ ما الذي جرى ولماذا وشم التنين اشتعل بهذا الشكل."
انتظر دقيقة ثم نظر إليها بخمول، لم تتفاجأ من هذه الملامح فقد اعتادت على حقيقته المتناقضة،
لكنها أجفلت من الارهاق الذي تلازم معه هذه المرة، ما كان خمولاً من النوع الذي تعرفه..
انتابها شك مريب في ذلك التنين الأسود، الذي تشابه تماماً ما هو محفوراً في كتف توأمها، ظهوره المفاجئ
بنظراته المخيفة فور رؤيتها لكتف لياو ما دل إلا على شيء وحيد، أن هذا التنين سبب
ألم شقيقها؟! إنها من جعلته يعاني هكذا..
قبضت يدها وابتعد بخطوات مترددة إلى الخلف، إذا كانت سبب معاناته فعليها الابتعاد، لكنه صرخ بأن تتوقف،
نظرت إليه بخوف من تلك النبرة التي
ما ألفتها منه يوم، جمدت في مكانها برعب وابتلعت ريقها وهي قلقة من إن يكون قد استطاع اختراق ما تخفيه...
وقف على رجليه ثانية
وضغط على أسنانه قبل أن يكلمها بجدية غير مألوفة:
" هل كلمتي التنين يون يان؟"
ابتعلت ريقها وترقرقت الدموع في عينيها وأجابته ببحة:
" لم أرَ أي أحد لياو.. لماذا تكلمني بهذه الطريقة؟ أنت تخيفني أخي."
أغمض عينيه عند آخر كلمة وحاول عدم التأثر لكنه لم ينجح، اقترب منها بابتسامته
الحنونة ورفع كفيه في الهواء، وقفت صامتة تنظر إليه ولم تستطع الصمود أكثر وركضت لتصبح بين ذراعيه.
" اغفري لي قسوتي صغيرتي الجميلة."
تكلمت وهي تخبئ وجهها في صدره:
" لطالما أحببتك أخي ولا أريد أن أخسرك بعد الآن."
ضحك وعاتبها بصوت مفعم بالنشاط كما لو كان الذي تألم قبل لحظات لم يكن هو:
" لن تخسريني يون يان.... هل تريدين الابتعاد أم أنك أحببتِ البكاء على صدري."
ضحكت وابتعدت عنه قليلاً، ورفع يده يجفف دموعها وقال لها بحنو:
" أريد الابتسامة ليل نهار على وجهك."
أومأت وهي تبتسم له واستمتعت باللحظات القليلة التي جمعتها بتوأمها مرة أخرى بدون مراقبة،
كما في الليالي السابقة، كانوا يتسللون كلصوص ويجلسون أسفل شجرتها المفضلة فوق الحشائش
التي أحبت لياو كما أحبها، يتسامران ويراقبان نجمتهما السرية، كانت تغمز لهما كل ليلة وشعرا بأنها ازدادت بريقاً
بعد التقاءهما كما أفصح كل واحدٍ للآخر....
ضحكا وتكلما وعوضها لياو سنوات غيابه عنها، تعلقت به كطفل يخشى فقدان أمه،
كانت الأيام بعد عودته إلى حيث ينتمي كالحلم لا بد لنهاية له! نهاية سترسمها بفرشاتها السوداء لأجله..
استمرت السعادة تلامس جميع سكان هان شي، حياتهم الطبيعية انجرفت وبسخرية نحو سراب يشارف
الزوال، تتالت أيام وشهور،
كانت للتوأمين خير علاج لداء الصدور، مسامراتهما تحت قمر كبير، فوق عشب
ندي وأسفل نجمة باسمة سرحت بخيالها إلى القرية الهانئة التي يروي عنها محبوبها لأميرته الفاتنة.
تلك التي ما شهدت يوما بطش نساء
هجينات وحضنت أناس لم يعرفوا للخيانة طعم أو شوق.
تمازجت معالمه بين غبطة وحزن وتراكبت
تكشيراته في صمت حين ذكر سكان هان شي القدامى الذين
شردوا من مدينتهم بعد أن اعتقدوا أن البلاء قد زال بفضل نساء قبيلتهما.
سرد لها موافقة تشاو وكيونغ على فكرته وشجعته هي بكل صدق متمنية حصول الأفضل
والنجاح في فضح حقيقة نكراء مغلفة.
[الصين: مدينة هان شي: السنة 380 قبل الميلاد]
الخلاص.. ولد قبل عشرين سنة، وانبلاجه بات في هذه السنة، علمت الكثير، وما أخبرتهم به كان القليل...
صديقها منذ سنتين، ذلك التنين الأسود الذي اقتحم خلوتها، يريد استعادة المجد لأصنافهم....
كان السبب في ما جرى للإمبراطورية في هذا القرن، دماءه التي جرت في عروقهن بعد أن
شربتها مؤسسة القبيلة قبل قرون يريد استعادتها على طريقته، وشريكته كانت الأميرة يون يان...
استعدت الأميرة نفسياً وجسدياً لما هي مقبلة عليه، انتظرت ظهور نجمتهما في السماء،
وسَتَعُدُّ بعدها في انتظار إشارة دخانية من قمة الجبل
القريب البعيد! ذاك على الحدود الغربية،
ما قبل المكان الذي قدمت منه قبيلتها قبل قرن وبضعة سنين.
حيث يرقد تنينها الصديق الأقدم،
انتظرت إشارته في غرفة الإمبراطورة، كان لياو بعيداً لا يملك لخطتها أي تكهن،
جمع مجموعة من المعارضين الأشداء وبلَّغ قبيلته الحاضنة بقرب الخلاص،
هان شي كانت لهم دوماً وستظل أبداً.
في مكان ما هو ومجموعته يخططون لقتل الإمبراطورة لكن الأميرة سبقت مسعاهم،
فنجاتهم بقتلها هي لـ زي يان!
وجاءت اللحظة الحاسمة،
وشعرت بانسحاب الهواء فور دخول والدتها الغرفة، ورأت ابنتها في ابتسامة أظهرتها بعذاب بالغ،
وتقدمت منها في توتر غير ملحوظ للإمبراطورة المبتسمة لابنتها مما زاد عذاب صغيرتنا...
" أمي أيمكنك القدوم معي لحظة.. أريد أن أريك شيئاً مهماً صنعته بنفسي قبل أسابيع."
" وما هو هذا الشيء يا حبيبة أمك؟"
أغمضت يون يان عينيها تحجب تلك اللآلئ عن والدتها والتفتت سريعاً
وأمسكت يد أمها وخرجت بها من الغرفة،
لم تتبعها وصيفاتها بأمر منها، وسارت مع ابنتها إلى قدرها المحتم...
وقفت الأميرة في ساحة القصر، ونظرت إلى أمها والدموع تسبح على جفتيها
حتى سالت على خديها الورديين....
" أمي انتظري هنا لأريكِ مفاجأتي."
ارتجف صوتها وقطبت والدتها حاجبيها في غرابة فقبل قليل كانت ابنتها تضحك فلماذا البكاء الآن؟!
نظرت يون يان إلى السماء وانتظرت اللحظات....
وهناك بعيداً في إحدى زوايا المدينة، زاغ بصر لياو
وارتجفت يداه على غير عادة، ونظر إلى السماء حيث يجب أن تكون نجمتهم....
خبا بريقها فجأة ولم يعد للحياة عنوان، وشعر كلاهما بأن جزءاً نزع من قلبيهما،
وآلمهما كثيراً اختفاء بريق ربط روحيهما رغم البعد والفرقة....
وعندما أدرك ما كان يخشاه، وأيقن أن النهاية اقتربت، صرخ باسمها بقوة مميتة انتفض
على إثرها الرجال من حوله، وحدقوا به بغرابة من تقلب وضعه.... من الهدوء إلى الغضب الراعد، علموا أن ما حدث
هو أمر خطير حتى لو لم يروه بأعينهم.
وترك خطته ورجاله خلفه وسابق الضوء إلى القصر على حصانة البني،
دمعت عيناه فجأة، اختفت نجمتهما واختفى الرابط الأخوي، مصيبة من صنع الأميرة حدثت، هو بخير حتى الآن
وهذا وحده يدله على أن روحه الأخرى قِيدَت للسماء....
كذبت عليه كما كان واثقاً دوماً، واصراره على القضاء على الإمبراطورة والعشيرة الظالمة
أغفله عن صغيرته الوحيدة، كره نفسه لحظتها وآلمه قلبه بحرقة قتلت خلاياه واحدة تلو الأخرى، لا يعلم طريقاً
يقود للعنة، لكنه يعلم أن اختفاء النجمة يدل على اقترابها،
هذا ما كان يعرفه وربما سيعرف المزيد الآن.
أوقف حصانه هناك، أسفل السلالم الحجرية، والرياح هبت تحمل رائحة دخان حرائق، تنين! قطعاً هو كذلك،
كانت تحدثه، أخبرها مكونات اللعنة، تمزجها في هذا الوقت مقرِّبة النهاية....
ركض عليها برشاقة نمر وتخطى درجتين درجتين حتى وصل، رآها تقف في المنتصف أمام القصر،
والإمبراطورة زي يان، التي ما اعتبرها في يومٍ أماً له، نظر إلى الغرب حيث نظرات الأميرة
وابتلع لعابه وارتسمت معالم قلقة على وجهه والتي ما أظهرها قط أمام أحد حتى معلمه...
وفي غياب آخر شمسٍ عليها، بكت السماء دماً وافترشت الأرض نيراناً منصهرة، في مشهدٍ أرعب الناس
سكان هان شي لقربهم وبقية القرى في الصين في ترقب.
انفجر الجبل الغربي وأصبح غباراً كأنه لم يكن منذ نشأة الأرض،
وصدح رعد مزلزل أطلقه ذلك الأعظم عندما انطلق بين الدخان بجسمه الضخم وبسواد قشوره المنيعة،
اقشعرت أجساد الناس وحالة هلع انتابتهم وأصبحت الحركات عشوائية، هدفهم النجاة
من براثن ذلك الديجوري، وركضوا إلى بيوتهم للاحتماء ونساء يان تأهبن للطارئ....
فغرت الإمبراطورة فاهها وصرخت بما تملكه من قوة،
وجسدها ما عاد قادراً على التحرك من هول المنظر، ومن سخونة الأرض التي وقفوا عليها،
كان الأحمر والبرتقالي والنيران عناصر تلك اللوحة..
وخلف صرخة الإمبراطورة انطلقت صرخاته هو، بقلب محترق وبدموع سالت بحرقة على وجنتيه، صرخ باسمها...
هتف بتشنج أرعبه:
استدارت إليه وابتسمت بألم، وقفت تحفر في ذاكرتها ملامحه الأخيرة، ليست الضحكات
ولا الابتسامات ولا حتى لحظات كسله المضحك، كان وجهاً مليئاً بالأسى، مغطى بالدموع،
عينان حمراوتان من الحزن...
كبر وصار رجلاً يعتمد عليه، كما كان دوماً، لكنه الآن على استعداد ليقود الإمبراطورية إلى العدل،
إلى إعادة رجال يان مع حقهم وشفاءهم، لتعيد أمجاد القبائل، ويضمحل الظلم، ويغيب الغبار عن سماءهم، لأجل
هدف توأمها السامي
استدارت وأغمضت عينيها ومنعت شهقاتها، لن تضعف هاهنا،
واستمدت قوتها من التنين الذي طار عالياً
بضخامته وكبرياءه إلى أقاصي السماء، وزمجرته ما توقفت وما فتئت ترعب الجميع،
هرب الحراس وبقيت النساء، صوبن رماحهن إلى الأمام، حيث الغرب ، لكن الرعب قطعاً استوطن روحهن
فهذه هي النهاية وإن كن لا يعلمن كيف، كل المؤشرات تدل والطريقة أمامهن تنفَّذ.
لم تستطع الإمبراطورة استيعاب ما حولها، حرارة الأرض أسفلها لم تشعر بها فبالنهاية
هي بقدرات التنين الجبارة، لكن ما ألجمها وفتك كيانها أن ذلك الشاحب هو ابنها المفقود،
توأم عزيزتها الذي أحضرته بأيديها إلى المملكةز
ارتعبت وتعرق جسدها من الهول، المكونات هنا ومن ستمزجها
هي محبوبتها الصغيرة.....
نظرت إليها بصدمة، إلى الفتاة التي استمرت بحبها إلى هذه اللحظة، كانت هذه مفاجأتها،
على يديها ستغيب عن هذا الجسد، إلا إن استطاعت اللحاق!
صرخت بقوة لافتة الأنظار إليها، نظرات ابنها الحاقد،
وعينا ابنتها التي ما تعرفت عليها هذه اللحظات، كانت تعانق الموت،
مدركة لما سيحدث، إلا أنها كانت.
احمرت عيناها والتهب جسدها، اندفعت في الهواء وزمجرت، ارتفعت الصخور
وتحركت القراميد من أسقف القصر، وعزفت الرياح معزوفتها المجلجلة،
وتحولت أمام أعينٍ متسعة عدا أربعة حافظت على هيأتها،
تنين فضي غدت، ضخم لكن ليس بضخامة ذلك المدمر، وما انتظرت سوى ثوانٍ ثم انقضت على شبحها بلا رحمة....
وبلون الدم المشوق لأشباحه غدا لونه، وحرارة صهرت الشمس مغترة اكتسب كيانه، روحه احترقت لتوأمته،
اشتعلت في عروقه دماء حارة واحتضنت رغبة قاتلة للانتقام....
وحلق عالياً بضخامة جسده الوحشي،
وعزف معزوفته بصوته الذي ارتجفت على إثره يون، وراقبت بدموعها ما كان يحدث في السماء...
تصادمت الأجساد ذات القشور،
وكان الغلبة للون الدماء، زمجر وضرب بذيله جسد والدته الآخر،
وردت له ضربته فكاد يسقط إثر قوتها، لكنه لن يقبل الهزيمة، ليس الآن ولا في أي وقت،
وفي سماء انصهرت فيها النيران ضربها بقوة
وهوت للأسفل بجسدها الضخم فكونت فجوة وسط ساحة القصر، وكانت فرصة يون
أن تحولت هي الأخرى، زمجر لياو محذراً لكنها لم تستجب، وقبل أن يقترب أكثر انقضت بنارها...
وافتعلت محرقة ارتفع دخانها إلى الحد الذي استقر فيه التنين
الأسود، كان فوقها مباشرة وغمره ذلك الدخان فاستنشقه بتلذذ، وأطلق نيرانه في السماء،
جحيم الأرض غدت تلك البقعة من الصين، هربت النساء وألقين السيوف والرماح، لكن من أين لهن الخلاص؟!
زمجر الأسود وعادت يون إلى طبيعتها،
ومرغماً بلا إرادة عاد وريث التنين الأبيض، ركض إليها حيث تقف تحدق بالرماد داخل الحفرة،
ضمها إليه في عناق أخوي يقطع القلوب، ودفعته بقوة عنها فالنهاية حانت...
نظرت للتنين الذي دار على شكل حلقة ثم وجه رأسه للأسفل واندفع ليختم اللعنة.....
صرخ لياو وأغمضت يون عينيها، سيتعذب قليلاً وسيذوق الموت الأسود، لكنه سيحيى في زمن هو الأنسب له...
" اعتني بنفسكَ عزيزي لياو فهذه الأرض غدت أرضك، والقومَ ستحل عليهم إمبراطوراً منذ اليوم."
وأخذت آخر أنفاسها بين هذا الدخان والرماد المتطاير، وفي صوت صرخات لياو الذي شعر
بتمزق جسده مع قميصه وغليان دماءه،
اشتعل التنين على الجانب الأيسر له وأطلق نيراناً مخيفة وتفجرت من شرايينه الدماء تغلي...
وطارت في الهواء كأن الجاذبية عكست مسارها وتجمعت في وسط المسافة التي فصلته عن شقيقته،
أرغم نفسه رغم الألم على النظر إليها، وهدد ساقيه بالعذاب إن سقطتا أرضاً
وصرخ باسمها عدرة مرات، مستنكراً هذه النهاية!
بات التنين أقرب وفتح فوهته الضخمة وأطلق منها نيرانه لتلفح الأميرة،
استقبلتها برحابة صدر، ستكون ثوانٍ ثم تختفي، ضحكت لأن حلمها سينبلج مع شمس جديدة، حكم جديد.....
غابت خلف النيران والتحمت بها وبكى دماً على تلك النهاية التي ما استحقتها أميرة قلبه...
وتحولت لرماد أدجن، وطار أمام عينيه ليختلط بدمائه بسيطرة ذلك التنين الضخم.....
عيناه الحمراوان ابيضت، وزمجر حزناً وتساقطت اللآلئ وهو يطير محلقاً في الدخان إلى الأعلى،
ونثر بريحه تلك الدماء الممتزجة برماد
اتقد نتيجة غلطة الأجداد، دفع الثمن من هم برآء من الخطيئة.
أصاب المزيج جموع النساء من قبيلة يان وحلقن تنانين قيدت إلى هناك حيث ما عاد للجبل مكان،
وليكون انذاراً صارخ لأي متجبر تحجرت الأجسام بعد أن غادرت الروح الأجسام.
كن بضعة تنانين تلك اللاتي تحجرن، والبقية أصبحن رماداً مصيرهن مصير إمبراطورتهن،
وقُذفت بقاياهن فوق تلك الكتل داخل الحفرة، وطمرها التنين بصخورٍ وأتربة من فتات الجبل الجنوبي....
وسكنت المدينة وخبت زمجرات التنين، الذي وقف في الجو قريباً ينظر بعينيه البيضاء لــ لياو...
" أحبتك كما لم تحب إنساناً قط، فعلت ذلك لتغير مصير البشر، روحها تتجول مرتاحة الآن تنظر إليك فكن لها خير وريث."
خاطبه التنين فصرخ لياو بالألم الذي عصف بخلاياه:
" لماذا فعلت هذا، أما كان هناك طريقة غير هذه للقضاء على هذا الظلم؟"
لم يجبه التنين فما علم كيف يجيب وحلق بعيداً حال انقشاع الدخان، متألم هو على تلك البشرية التي ظُلمت،
وحكم على نفسه بالعذاب طيلة حياته.... وظل يحلق في سماء هان شي يبذل تلك الدموع التي صنعت جوفاً أحمر
في جسده الضخم.....
كالكابوس بات المكان، وجسد بلا روح وقف وسط الحطام، لا أثر لحياة بشرية حوله، نظرة خاوية مررها ما
بين تلك الحفرة
والدخان في أقاسي السماء الظلماء، افتقدهما معاً لدرجة مزقته لأشلاء، أميرته ونجمته في السماء التحمتا،
سيراقبانه من فوق وهو يعاني الوحدة والتشتت كما كان قبل اللقاء...
لا يعلم ما الوقت الذي قضاه وهو واقف في الأطلال، وأشرقت الشمس التي رغبت توأمته في رؤيتها منذ أعوام،
حلما معاً في العيش بدفئها وتحت صفاء سماءٍ زرقاء.
ولم تخبره يوماً أنها ستكون كالملاك الحامي له ولبني البشر في إمبراطورية الصين العظيمة.
نظر إلى الأعلى ثم تقدم بوهنٍ لينظر إلى الغرب حيث زرعت تلك الصخور وإلى المدينة ككل،
ورأى الناس يخرجون من بيوتهم آمنين...
رأى الجنرال وكيونغ وجماعته قادمين يهتفون باسمه، وانتابهم الهلع عندما
رأوا كل هذه الشقوق التي ما سلم منها طرف من جسده...
" أنت وريث التنين، توأم الأميرة المفقود، المخلص والإمبراطور للعصر المنتظر."
تقدم كيونغ ببطؤ وهو يمد يده في الهواء باتجاهه
لكنه لم يرهم أمامه، وتقدم إلى نهاية الساحة أمام المدرجات الصخرية...
وصدح صوته وتردد صداه ليصل آذان السكان:
" مدينة هان شي مقبرة الغزاة الآثمين، حرمت يوم نشأتها على نساء يان وعلى كل المعتدين."
نظرت الأعين إليه
وابتسامات زينت أفواه السكان وأكمل يخاطبهم بقوة متفجرة وخيال أميرته استوطن وسط الزرقة الصافية..
" من اليوم ستغدوا هان شي مدينة بكين، هذه التي حُرمت على فتيات عشيرتي اليوم
وأحلت ولوج من كانوا يوما مالكيها الأسبقين.
عمت صرخات الناس الساحة، تلك الصرخات التي شذى صداها في كل الحقب مذكرا بتضحية
من فضلت الغير على النفس.. وبرماد من غربيب ودماء القرمز العذراء كانت نهاية استعباد
مبطن طال استعباده للناس المستضعفين.
" وهل يتوقعون مني تصديق هذه الخزعبلات؟"
خرج صوت ويليام أخيراً بعد صمتٍ دام ساعة وبضع دقائق، اعتاد على زيارة هكذا أماكن في رحلاته الكشفية،
وكتب تقارير كثيرة عنها في جامعته في لندن، لكن أن يؤمن بهذه الأسطورة لهو أمر
غير قابل للتفكير،
حتى التنانين حيوانات خرافية فكيف ستكون القصة التي سمعها حقيقية؟
" مدينة بكين المحرمة... قبيلة يان الهجائن، النساء من يحكمن، ما هذه السخافة؟!"
تمتم ساخراً ثم زفر بملل، ندم في هذه اللحظات على سفره غير النافع إلى بكين
فقد خيبت توقعاته أسطورتهم التي يفخرون بها، لكنه في الصين الآن وكانت حقيقة عليه التماشي معها...
نزع نظارته الشمسية عن عينيه ورفع بها خصلاته الشقراء لتعود إلى الخلف بانتظام،
ثم نظر إلى السماء الصافية.
سلطت شمس أغسطس جبروتها على قميصه القطني فالتصق بجسده الممشوق..
وكم أشعره هذا الأمر بالانزعاج فأصبح تواقاً للغطس في المياه الباردة عند العودة للفندق.
سار مكملاً جولته، تأمل القصر الكبير ذا القرميد الأحمر الذي دارت في ساحته تلك المعارك على مر القرون،
قبل استيلاء نساء يان على بكين وبعد حكم لياو للإمبراطورية.....
حيث عاشت الأميرة ونُثر رمادها، وقف أمام تلك البقعة التي حملت نهاية الأميرة وهناك حيث
وقف لياو يخاطب الجموع، أعجب بشخصيته لكنه قطعاً لن يصدق أنها حقيقة، أسطورة ليست أقل ولا أكثر...
استدار لينظر إلى الغرب، حيث كان في ذلك العصر جبل ما عاد موجوداً،
قريباً كان من موقعهم وأمكنه رؤية رؤوس التنانين الحجرية بشكل جيد...
مرر كفه على رقبته بمنديل صغير ومسع قطرات العرق التي أزعجت خلاياه، ثم رفع الكاميرا الفوتوغرافية
والتقط بها عدة صورٍ لتلك الرؤوس مستعيناً بعدسته الدقيقة، والتقط صوراً أخرى للقصر
قبل أن يدخله ليختم جولته البلهاء هذه ويريح رجليه التي آلمته من كثرة السير.
عند المدخل
وقف مبهوراً يحدق بتمثال تنين ضخم مخيف، اقشعر بدنه وعجز عن الكلام وقتها،
لم يكن كما رآه في الصور على شبكة الإنترنت.
كان أعظم بكثير، على نحو لم يتقبله عقله أبدا..
التقط له صوراً من كل الزوايا، أعجب بشكله، وأراد بشدة التعرف على اسم ناحته!
نظر إلى الوجوه حوله وكان الجميع مشغولاً بأمور عدة، وتأكد أن ما من أحد سيلحظ دخوله
وتخطيه الحاجز الرمزي الذي يبعد التنين عن الأيادي...
اقترب منه ورفع يده ليلمس القشور الحجرية، ونظر إلى وجهه الضخم بكل ما عليه من تفاصيل.
هتف مأخوذاً ودار حوله ليبحث عن اسم الناحت لكنه لم يجده، التوى فمه بعبوس واتكأ على التنين
مكتفاً ذراعيه مطلقاً زفرات حادة.....
ومن مكانه رأى عجوزاً صينياً طاعن في السن لحيته الشيباء تصل إلى طول ليس بهين
تتحرك بشكل مضحك مجارية هرولة رجليه الهزيلتين، ويده اليمنى يحمل بها عكازه يلوح بها لأحدهم.
حدق الشاب فيه ببلاهة وأطل برأسه من جانب ذيل التنين إلى الخلف ليبحث عن الملاحَق لكنه لم يرَ أحداً،
وكان أن شاهد أزواج عيونٍ كثيرة تحدق به من كل الجوانب التي مرر بصره فيها...
" ماذا يجري هنا؟ وما بال هذا الخرف يركض بهذا الشكل؟"
بقي على وضعيته، ينتظر وصول من كناه بالخرف إليه. توقف العجوز على بعد خطوات منه
وقد احنى التعب جسده المقوس أكثر مما فعل الكبر به.
همهم ويليام باستفهام وقد كتف ذراعيه، ثم وبلغة صينية ركيكة سأل:
فجأة. وقف العجوز وضربه على رأسه بالعصى وسط اندهاش الزائرين الذي تحول إلى
قهقهات أقلقت راحة أزرق العينين.
مسح الطالب الجامعي موضع الألم بخفة ثم تمتم يستفسر عن أحوال خلاياه الثمينة. تنهد
ثم سأل العجوز مرة أخرى بنوع من الانزعاج:
" ما بالك أيها الخرف؟ أتتهجم على شاب بريء مثلي؟"
" كيف تجرأ على تخطي الحاجز؟ هذا تمثال قيم من ثراثنا."
صفق ويليام بيديه ثم استفسر بفرح متجاهلا غضب العجوز:
"أنت عامل هنا إذن.. أيها الجد أخبرني من نحت هذا التنين؟"
سأله العجوز بنوع من التفاخر الممزوج بالشك، فابتسم الأخير بشموخ ثم ابتعد عن التمثال.
قرب وجهه من وجه العجوز ثم همس ببراءة:
" تقرير.. المدينة والأسطورة بحد ذاتها لا تحتاج الكثير من الاهتمام، لكن هذا التمثال شيء متفرد".
ضحك الحجوز ثم مسح لحيته البيضاء الطويلة، جذب الفتى ثم رحلا إلى غرفة جانبية أين بدأ