[2]
مرّ أسبوعان منذ أن كتبتُ شيئًا على هذه الصفحات و أستطيع القول أن كل شيء يميل
للتحسّن بغضّ النظر عن مزاج والدي الغريب الذي مازال مُتقلبًا، لا أظنّ بأن هذا مهم بقدر
مسألة
إليوت الذي لم أكُن أعتقد بأنه سيكون قادرًا على الإنسجام مرة أخرى مع أمي
و أبي بعد ما سمعه منهما أو بالأحرى ما "ظنّ" أنه قد سمعه.
لكن قلقي بدأ يتلاشى، فعلى مايبدو..
إليوت بدأ بنسيان الموضوع و إدراك أنه كان مخطئًا.
لم يحدث شيء يستحق التّدوين خلال هذين الأُسبوعين كما حدث عندما قررتُ اقتناء مذكرة..
الشيء الوحيد الذي أتطلع إليه هذه الأيام هو عيدُ ميلادنا يوم غَد، خرج أبي و أمي
للتو و لم يُخبرانا إلى أين لكني واثقه بأنه أمرٌ يخصّ يوم ميلادنا، و أتمنى أن أُوفّق
في تصنع عدم معرفتي بالأمر.. غدًا هو اليوم الموعود كم أنا متحمسة لأدوّن احداثه!
-
أتمنى لو أنني عرفتُ حينها...لم أضطر لتصنّع تفاجُئي لأنني قد تفاجأتُ بالفعل..
لا أعرف كيف استطعتُ الفرار انا و
إليوت بالرغم من أننا لم نستطع الفرار بكامل أجزائنا،
فإليوت فقد ذراعًا نتيجة ذلك.. لا أعرف هل سيكون بخيرٍ أم لا، إنه نائمٌ الآن و لا أستطيع التوقف عن لومِ نفسي على ماحدَث له.
نعَم، لقد قضيَا اليوم بطوله في الخارج، و عندما عادا إلى المنزل تلك الليلة.. كانا يحملان
صندوقًا ضخمًا وضعاهُ في إحدى الغرف التي أحكما إغلاقها جيّدًا و حذّرانا من محاولة
الدخول إليها..
لم تدخُل أي ذرّة شكٍ أو رِيبة في قلوبنا، بل اجتاحها الحماس لمعرفة مافيه يومَ غد، لم
نُرِد الإستعجال في فتح الصندوق و إفساد المُفاجأة.
و في اليوم التالي استيقظتُ مبكرًا و لم أستطع إجبار نفسي على النوم مُجدداً وكم أنا
شكورةٌ لهذا، نهضتّ من سريري خارجةً من غرفتي، كان البيتُ مُظلمًا عدا من غرفة واحدة " الغرفة المُغلقة ".
توقعتُ أن يكونَ والدايّ يُجهزان لتنسيق الحفلة، اختلستُ نظرةً و كنتُ محقة و لكن ما
لم أكن أتوقع رؤيته هو وجود
إليوت معهما و الأسوء من ذلك أيضًا هو أنه يستلقي غارقًا
في دماءهِ بذراعٍ مفقودة وسط الغرفة التي امتلأت بمُعدات حادّة.
استطعتُ بطريقةٍ ما منع نفسي من الصراخ! ، اضطُّرب تنفسي و تشوشتْ أفكاري
لكني أخيرًا تراجعتُ بأبطأ ما قد تخطوهُ قدماي و بسرعةٍ صعدتُ إلى غرفتي، التقطتُ
حقيبتي المدرسية و كلّ ماكُنت أفكر فيه كان الهَرب و...
إليوت اعتقدتُ بأن الآوان قد فات له..
كانت دموعي تنسابُ كالشّلال و علا صوت تنفسّي أكثر لدرجةِ أنني أحسستُ بأنه باتَ
مسموعًا لمن بالأسفل! لذا حاولتُ السيطره عليه، دسستُ كل ما رأته عيناي في الحقيبة
وقد واجهتُ صعوبةً في ذلك لشدّة ارتجاف يديّ، جُلتُ ببصري أنحاء الغرفة بحثًا عن شيءٍ
بإمكانه لعب دور السلاح و لم اجِد غير قلم عائد إلى مكتبي، لم أعرِف كيف يُمكن لقلمٍ صغير
أن يحميني، لكنه أفضل من لا شيء! رغم إني قد لا أضطر لإستخدامه حتى..
ثبّتُ الحقيبة على كتفي والقلم بين يدي، اختلستُ نظرةً من باب غُرفتي للرواق
لأتأكد من خُلوّه، ثم مشيتُ عبره بهدوء ومنه إلى السلالم، كتمتُ أنفاسي عندما
أصبحتُ قريبة من الغرفة..
لم أكُن أنوي أن أنظر داخلها لو أنني لم أسمع صوت أنينٍ مكتوم
كانت الغرفة خالية
منهُما عندما نظرت، و كم أرعبني عدَم رؤيتهما فقد يكونا في أي مكان الآن و قد ينقضا عليّ
في أيةِ لحظة، لكن لم أكُن لأهرب تاركةً
إليوت خلفي!
لذا قررتُ أن أُجازف و كم احتاج مني شجاعةً لأدخل الغرفة المملوءة بطلاءٍ أحمر مُقرفٍ
كريه و قد تناثرت فيها أدواتٌ لُطّخت به.
شعرتُ لوهله بأنني في حُلم او بالأحرى كابوس و أنا أمُرّ وسط هذه الأشياء إلى أن وصلتُ
إلى
إليوت، كان شاحبًا جدًا، عندما حطَت عيناي على ذِراعه أو ماتبقى منها ضربَ قلبي بعنفٍ!
و شعرتُ بأنه سينفجر! ، كان كتفهُ مربوطًا بشريطٍ لإيقاف النزيف، و ارتحتُ قليلاً لهذا فلن
أضطرّ أنا للقيام به وقد يموت قبل أن أفعلها بشكلٍ صحيح، حاولتُ محادثته لكنه كان يردّ
علي بهمهمات غير مفهومة، و استمرّت محاولاتي بمحادثته علّه يستفيق، و أنا أقومُ بحمله..
جررتهُ للباب الآخر من الغرفة وقد تركت دماؤهُ أثرًا واضحًا، و بينما كنتُ أقوم بذلك
بدأتُ بسماع أصواتٍ غاضبة تتحدّث
" أخبرتكِ أن علينا قتلُهم! "،
" لا تكُن غبيًا! لن يكونا
صالحيْن للأكل إن فعلنا! "، لم أعرِف كيف كان عقلي يعمل جيّدًا حينها.. لكني أيقنتُ
بأنني إن أكملتُ طريقي فلن تكون لديّ أي فرصةٍ للنجاة خصوصًا مع
إليوت العاجز الذي
ترك خلفه آثارًا لدمائه، سيتبعونها و يجدوننا بسرعة!..
لذا، قررتُ العودة الى نقطةِ البداية، فتحتُ صندوقهما الضخم و دفعتُ
إليوت داخله ثم
دخلتُ مُتمنيّةً أن يبتلعا الطُعم..
كان الصندوق مليئًا بأشياء ليّنة لزجة، حاولتُ منع نفسي من التفكير عن ماهيّتها فقد
كُنت على وشك التقيؤ من الرائحة، و برغم وجودِ شيءٍ حادٍ أخذ يُمزق جلد قدمي، لم أتجرّأ أن أصرخ..
عضضتُ على شفتيّ و أحكمتُ إغلاق فمِ
إليوت بيدي عندما سمعت صوتَ الباب يُفتح
" أين يمكن أن تذهب؟ "
حلّت فترة صمتٍ قصيرة واجهتُ فيها صعوبة في كتم أنفاسي قبل أن يلاحظا اختفاءَ
إليوت " أوه رائع أخذَت الفتى معها! " كان هذا صوتُ أبي الملول قبل أن يُطلق قهقهة خفيفة مردفًا
" أوه تلك الفتاة تظنّ بأن من واجبها حمايته، إنه حتى ليس اخوها بالدم! "،
" كُفّ عنِ الثرثرة
و انظر إلى هذا لاشكّ بأنها اخذته وخرجَت من الباب الآخر، لايُمكن أن يكونا قد ابتعدا، اذهبْ
خلفهما "،
" وماذا ستفعلين أنتِ؟ "،
" سألحق بكَ قريباً بعد أن أفتشّ الغرفة ".
ماقالته توًا جعل معدتي تتلوى و قلبي يدُق ضِعفًا، أدركتُ بأنها نهايتي عندما بدأت بفتح
الخزانات واحدة تلو الأُخرى و استطعتُ رؤية جزءٍ من وجهها عبر فتحةٍ في الصندوق
و لم يُساعِد هذا حالتي إطلاقًا، كان وجهها يُشبه ما رأيت تلك الليلة في وجه أبي،
وجه ميت شاحب ماكرٌ بلا رحمة!
وعندما بدأ عقلي يتذكِرّ تلك الحادِثة عمّ الظلام فجأة و سمعت صوتًا غاضبًا
" تبًا " و لم
أكُن مدينة لهذا المنزل حتى الآن، استغللتُ هذه الفرصة التي لا تتكرر مرتين، و التقطتُ
قطعًا من الاشياء اللزجة من تحتي و غطيتُ بها سطح جسدي وجسد
إليوت، و عندما
قامت بفتح الصندوق أخيرًا، لم تستطِع العثور على أيّ شيء مثير للإشتباه فيه فأغلقتهُ
مُجددًا، لم أطلق العنان لأنفاسي و لم أترك فمَ
إليوت حتى استطعتُ سماع صوت الباب
يُفتح و يُغلق مُجددًا، فتنفستُ الصعداء وخرجتُ بصعوبة من الصندوق الذي قام بتغطيتي بمادّة
لزجة مُقرفة وقام بتحويل رائحتي إلى قُمامة، أخرجتُ
إليوت الذي كان فاقدًا للوعيّ،
لكني لم أجِد وقتاً لإفاقته، وهربتُ به من الباب الذي جِئتُ منه ومن ثم إلى الرُدهة..
عرفتُ بأنهما اعتقدا بأنني سأهرب من الباب الخلفي لذا اعتمدتُ الأمامي و بطبيعة الحال
كان موصدًا و هذا ماجعلني أدسّ المفتاح الإحتياطي الذي في غرفتي داخل الحقيبة، بحثتُ
عنه بين كومة الأشياء الموجودة و أنا ارفع بصري كل ثانية خشية أن يكونا قد اكتشفا أمري،
حتى عثرتُ عليه أخيرًا..
عندما وطأت قدمي خارج المنزل، استطعتُ رؤية أبي ينظر لي بمكرٍ بوجهه الميّت، رغم
أني لم أرى تلك النظرةَ على وجهه من قبل إلا انني كنتُ موقنة بأنها نظرتهُ الحقيقية التي
ظَل يخفيها بوجهه الآخر طيلة الثمانية عشرةَ عامًا التي عشتُها معه، والتي باتت في الأشهر
الأخيرة أكثرَ وضوحًا، في تلك اللحظة التي رأيته فيها تحركت يداي بسرعة مُدهشة و أغلقتُ
الباب خلفي بالمفتاح و تركتهُ داخل ثقب الباب، لكني عرفتُ بأن وقتي بات محدودًا و أن عليّ
التحرُك بسرعة فلا زال الباب الخلفي مفتوحاً وربما تكون أمي في الخارج الآن تبحثُ عنّا،
وكم كان الهرَب مِنهما صعبًا و أنا أحمل
إليوت، بدأت أهبط التلّ قاصدةً المدينة في
الأسفل لكن آمالي تلاشت جميعها و أُصبتُ بأحباط مُخيف عندما وجدتُ أمي تقِف هُناك،
تصنمّ جسدي في مكانه و لحُسن حظي انها لم ترَني!
لمْ أستطِع العودة للمنزل للإتصال بأحدِهم لأن أبي كان هناك و لم استطِع النزول للمدينة
لأن أمي تحرسُ المكان!
تذكرتُ هاتفي المحمول المرمي في حقيبتي مع بقيّة الأشياء التي لا أعرف إن كنتُ سأستفيد
منها، حولتُ طريقي إلى الغابة التي بجوار منزلنا، و توغلتّ فيها فوجدتّ كهفًا صخريًا
خاليًا، بدا أنه مكان مُناسب لأقف فيه و أتصّل بالشرطة، أسندتّ
إليوت على أحد جوانب الكهف،
و بدأتْ أمرّر أصابعي بسرعة على سَطح الهاتف طلبًا لرقم الشرطة، خوفي من عثورهما
عليّ هو ما دفعني للإسراع رغم أنّ طاقة الجهاز أوشكتْ على النفاذ، انتظرتُ بيأس أن
يُجيب أحدهم و أصحبتُ أُحصِي عدد رنّات الهاتف، حتى التقط أحدهم السّماعة أخيرًا، لم
أنتظره ليتحدَث بل خرجت الكلمات من فمي كالمدفع!
وصفتُ له المكان و العنوان و الحالة التي نحنُ بها و لم أترُك له تفصيلًا واحدًا، أخبرني أنه
قادمٌ بأسرع وقت، تنفستُ الصعداء عِندها...
-
و لكِن ها أنا ذا مازلتُ أنتظر وصولهم منذ ساعتين، و أستطيع سماع أولئك الوحوش و قد
بدؤوا بالبحث عنّا في الغابة! ها أنا الآن رُبما تكون هذه كلماتي الآخيرة في هذا العالم.. بدأ
اليأس يتسلّل إلى قلبي، أشعرُ بالوحدة، و
إليوت... حالهُ يزداد سوءًا!
كلّما نظرتُ إليه أشعر بالندم وكأن خنجرًا يخترق قلبي، حتى و إن... و إن لم يكُن أخي!
سأعتبرهُ دائماً كذلك..
ألهذا السبب أملك شعراً كستنائيًا و هو يملكُ أحمرًا؟ ألهذا السبب أيضًا بشرتي داكنة
و بشرتهُ فاتحة؟ ألهذا يملك عينان خضروان و أنا عينايّ بُنيّتان؟ رغم هذه الإختلافات لم
أشك أبداً في أُخوّتنا، فأرواحنا كانت مُتشابهة لحدٍ كبير..
إنهم بالأحرى ليسوا والدايّ أنا أيضًا، إذًا من هُم والداي الحقيقييّن؟ ومن هُم والدا
إليوت؟ ..
حياتي كانت كِذبة، عِشت ثمانية عشر عامًا من حياتي في كَذبٍ و تلفيق، لا أعرف
حتى إن كُنت أودّ الإستمرار في العيش بعد الآن...
’*
-اخرُجا الآن! لا سبيل لكُما في النجاة!
توغّل الكائن بين الأشجار الكثيفة بصعوبة وهو يتلفتُ حوله مضيّقًا عيناهُ الباهتتان
ليُبصر جيّدا ثم أردف :
-هل ظننتِ حقًا بأن ذلك الشُرطي سيُنقذك؟ إنه ميّت هنا إن كُنتِ تتسائلين!
جاءهُ صوتٌ أُنثوي على بُعدٍ لا بأس به :
-هيه، تعال إلى هُنا!
صاحَ الكائن في لهفة :
-هل وجدتِهم؟
لم تنطق بشيء بل أشارت الى كهفٍ صخري التمع من قطرات المطر التي حطَت على
صخوره، فصاحَ هو مجددًا :
-لنتفحصه!
تقدَم اثنيهما ناحية الكهف و أشعلا مصباحيهما لتّتضح لهما الرؤية في الظلام، وعندما حطّ
ضوء المصباحين على الصبيين المُستلقيين داخل الكهف، صاحَ الكائن بمكرٍ و اشمئزاز :
-اذًا، كانا هُنا طوال الوقت! تبًا لولا المطر لاستطعنا شمّ رائحتيهما و وفرّنا كل هذا العناء!
-لا تفرح كثيرًا قد يكونا ميتيْن، تفحصهما!
تقدّم الكائن ناحية الفتى ذو الشعر الأحمر و تحسّس معصمهُ فهمس :
-أوه تبًا..
-ما الأمر؟
-إنه ميّت، ماذا عن الفتاة؟
-إنها حيّة، لكن لحظة، لمَ مات؟ ألمَ تربط خرقةً حول ذراعه؟!
جاءَ صوتها غاضبًا
ممّا جعلهُ يرتبك في كلامه عندما أدرك خطأه :
-أوه بذكر هذا يبدو أنني لم أُحكم العُقدة جيّداً!
قهقهَ بإرتباك ثم أردف :
-لكنها لم تعرف هه!، كانت تجُرّه معها في كل مكان و لم تعرِف إنه كان ميّتًا منذ فترة طويلة!
ثُم أكمل ضحكاته، لم يبدُ الأمر مُضحكاً بالنسبةِ إليها فقد تطاير الشرّر من عينيها و راحت
تصرخُ في وجهه الذي تبلل عرقًا بجانب قطرات المطر :
-مالذي فعلته؟! ثمانية عشرة سنة ضاعت سُدىً جراء غلطة صغيرة واحدة!
-كيف يُحدَث هذا فرقًا؟ نحن لانموت بعدَ كُل شيء!
زمجرَت بغضب لكنها أغمضت عينيها في محاولة لإبتلاع غضبها، ثم أردفتْ بصوتها
الهادئ المعهود :
-هذا ليس المكان المناسب للشجار، سأعلّمك الدرس عندما نصل إلى المنزل، خُذ الفتاة إلى البيت
و ارمِ الفتى في النهر مع ذلك الشرطي.
اومأ برأسه طاعةً لها و نفذّ أوامرها بسرعة حيث حمل الفتى بيدٍ و كان ينوي حمل الفتاة بيدِه
الأخرى لولا أن قدمه قد اصطدمت بشيءٍ ما، انحنى ليلتقطه ثم رفعه عاليًا :
-ماذا أفعل بهذه المُذكرة؟
-أرِني..
اختطفَتها منه و بدأت تقرؤها على عجل، ثمّ أردفت :
-قُم بإحراقها...إنها تحتوي على دلائل!
-حاضر..
’*
اسمي
أليِكس، أعيش مع والداي و إخوتي التوائم الثلاث
ماركوس و
سارا و
كارا حياةً أقرب مايُقال عنها
عاديّة لولا أننا نقطُن في بيتٍ معزولٍ أعلى التل، و لولا أيضًا...تصرّفات والِدي الغريبة التي بدأنا
نلحظها انا و إخوتي مؤخرًا.
انتهى~